سوريا ومأزق الخيارات الصعبة في ظل الأجندات الإقليمية والدولية!

البيضاء نت | مقالات

 

 

 

بقلم / يحيى الربيعي

 

لم يعد سراً وجود مفاوضات بين دمشق وتل أبيب في عواصم مختلفة. السؤال المحوري هنا ليس فقط حول طبيعة هذه المفاوضات، إن كانت مجرد ترتيبات أمنية أو مقدمة لسلام مزعوم، بل يتعلق بالسياق الأوسع لهذه التحركات وتداعياتها المحتملة على الوجود السوري ومستقبله، في ظل أجندات إقليمية ودولية متضاربة، والتي يمكن تناولها من مسارين:

 

الأول: التسوية والتكيف (وهم الاستقرار)

أن المفاوضات الجارية، التي يشار إليها أحياناً بـ”مبادرة التهدئة”، تأتي في إطار تحرك أمريكي وغربي أوسع يهدف إلى “إعادة هندسة المنطقة” و”إطفاء بؤر التوتر”. الهدف المعلن لواشنطن هو إعادة تشكيل الواقع الإقليمي بما يتطابق ورؤيتها لدورها العالمي المستقبلي، خاصة في ظل صعود قوى دولية مثل الصين.

وتُدفع دمشق نحو هذه المفاوضات بسبب الانهيار الاقتصادي الحاد والعزلة الدولية التي تعاني منها، سعياً لرفع العقوبات وإعادة الإعمار. فيما تهدف الولايات المتحدة إلى إعادة ترتيب أوراقها في الشرق الأوسط للتركيز على تحديات عالمية أكبر، وقد ترى في “استقرار” محكوم لسوريا فرصة لخفض التزامها المباشر. وقد تستغل تل أبيب هذه المفاوضات لتحقيق “استقرار” يخدم مصالحها الأمنية العليا، كإنشاء مناطق عازلة، أو الحصول على ضمانات أمنية، أو حتى ترسيخ هيمنتها الإقليمية عبر علاقات تطبيع تخدم أجندتها التوسعية.

وبالتالي، فإن التماهي مع هذا المسار، الذي يبدو وكأنه يقدم حلاً سريعاً للأزمة، يحمل في طياته مخاطر جسيمة على الوجود السوري ومستقبله، إذ حتما ستؤدي الترتيبات الأمنية إلى ترسيخ احتلال تل أبيب لأراضٍ سورية إضافية وفرض قيود صارمة على السيادة السورية في مناطق حساسة، مما يكرس واقعاً جيوسياسياً جديداً لا يصب في مصلحة دمشق.

وحتى لو تم رفع بعض العقوبات، فإن أي تعافٍ اقتصادي سيكون مرهوناً بالإرادة الخارجية ومقيداً بشروط قد تحول سوريا إلى دولة تابعة اقتصادياً، غير قادرة على اتخاذ قرارات مستقلة تتعارض مع مصالح الأطراف الأخرى، وخصوصاً الكيان المحتل، فإن السلام المفروض من الخارج سيؤدي، بالضرورة- إلى تفكك داخلي في سوريا، عبر خلق مناطق نفوذ لكيانات مختلفة أو تقسيمات غير رسمية، مما يقوض الوحدة الوطنية ويزعزع الاستقرار على المدى الطويل.

وبالتالي، فإن تجريد سوريا من أوراق القوة، سيظهر على أنه الهدف الأساسي للكيان المحتل من أي تسوية هو نزع أوراق القوة من دمشق، سواء كانت عسكرية أو سياسية، لضمان عدم تشكيل أي تهديد مستقبلي.

 

الثاني: المقاومة والمواجهة (سبيل الخلاص الوحيد)

يقوم هذا المسار على فهم عميق للطبيعة الاستراتيجية للكيان المحتل، الذي لا ينظر إلى جيرانه بمنظار خلق الاستقرار بقدر ما يسعى إلى تفكيك الأنظمة المحيطة، تمهيداً لتحقيق استراتيجيته التوسعية في قيام “إسرائيل الكبرى”. وبالتالي، لا يمكن للكيان المحتل أن يفكر، حتى مؤقتاً، بعقلية نظام يسعى للاستقرار والتعافي.

إن الهدف الأسمى للكيان المحتل هو التوسع الجغرافي والسيطرة الإقليمية. وهذا يتطلب إضعاف وتفتيت الدول المجاورة، وسوريا تحديداً، لأنها تمثل حاجزاً تاريخياً أمام هذا المشروع. والوضع الحالي لسوريا بما يعانيه من الانهيار الاقتصادي والأمني لا يمثل دافعاً للكيان المحتل لتقديم المساعدة أو تحقيق الاستقرار. بل هو فرصة ثمينة لمزيد من الضغط والتوغل. وأي “سلام” أو “تهدئة” من جانب الكيان المحتل لن يكون سوى غطاء لمخططات أعمق تهدف إلى التفكيك والسيطرة، وليس بناء علاقات طبيعية أو مستقرة.

لا يمكن تحقيق تعافٍ اقتصادي وأمني حقيقي إلا من خلال سيادة كاملة وقرار وطني مستقل، بعيداً عن أي تبعية أو إملاءات خارجية، وخاصة تلك التي تأتي من الكيان المحتل. وبالتالي، فإن الخلاص الوحيد لسوريا يكمن في قلب الطاولة في وجه المخططات الأمريكية والصهيونية، والاعتماد على قوة المقاومة والتحالفات الاستراتيجية. المواجهة الحقيقية هي السبيل الوحيد لاستعادة الأراضي المحتلة والحفاظ على وحدة التراب السوري، وعدم السماح بمزيد من التوسع الصهيوني. يتطلب هذا المسار تعزيز القوة الذاتية لسوريا، وتعميق تحالفاتها مع قوى إقليمية ودولية لديها مصلحة في كسر الهيمنة الأحادية، مثل دول محور المقاومة، وروسيا، والصين، وكوريا الشمالية.

 

وأيهما أقرب لخلاص سوريا من المأزق؟

بين مسار التسوية المشروطة والمحفوف بالمخاطر، ومسار المقاومة والمواجهة، يبرز السؤال: أي السبيلين هو الأقرب لخلاص سوريا من المأزق؟

إن الرهان على تسوية مع كيان لا يرى في سوريا سوى نقطة على خارطة مشروعه التوسعي قد يؤدي إلى تفكيك الوجود السوري ذاته، بدلاً من استقرار نظام أو تعافي اقتصاد. فالكيان المحتل ليس معنياً بخلق استقرار دائم لجيرانه، بل بتفكيك الأنظمة المحيطة لتمهيد الطريق لمشروع “إسرائيل الكبرى” المزعوم.

في المقابل، فإن خيار قلب الطاولة ومواجهة الأجندة الأمريكية والصهيونية، المدعوم بمحور المقاومة وحلفاء دوليين، قد يكون هو السبيل الوحيد لكسر دائرة الاستنزاف والحفاظ على الوجود السوري كدولة موحدة وذات سيادة، رغم التحديات الجسيمة التي ينطوي عليها. إنها معركة وجودية تتطلب رؤية استراتيجية تتجاوز الحلول المرحلية الزائفة وتفهم الطبيعة العدائية للكيان المحتل.

هل يمكن لسوريا، في ظل ظروفها الراهنة، أن تراهن على هذا المسار الأخير بفعالية لتحقيق خلاصها أم تجر وراء اغراءات الشيطان الأمريكي فتقع في المصيدة الصهيونية؟ ذلك ما ستقرره سوريا في قادم الأيام.