بيعٌ بلا ثمن

البيضاء نت | مقالات 

 

بقلم / د. عبدالرحمن المختار

 

 

عارٌ وأيُّ عارٍ بيعُ شرف الأُمَّــة وكرامة وعزة شعوبها مهما بلغ الثمن، وهذا النوع من البيوع المحرمة تجاره وسماسرته الحكام وليس عامة الأفراد، والبيع في مثل هذه الحالات لا يكون إلا للعدو؛ فالعدوُّ هو المعنيُّ أَسَاسًا بامتهان الأُمَّــة وسلبها كرامة وشرف وعزة شعوبها، ليسهل عليه إذلالها وامتهانها واستعبادها، وتحت عناوين زائفة تنافس الحكام العرب في تقديم عروض البيع لأعداء الأُمَّــة، وإيهام الشعوب بتوسيع علاقات التعاون مع الأصدقاء تحديدًا الغربيين، رغم أن التاريخ القريب يسرد لنا وقائع الإجرام الغربي بحق شعوب الأُمَّــة من غرب الجغرافيا العربية إلى شرقها ومن شمالها إلى جنوبها.

 

ومع ذلك لا يزال حكام العار يتنافسون في بيع كرامة الأوطان وحريات الشعوب في أسواق النخاسة الغربية وبأثمان بخسة، وليس للحكام العرب من بضاعة يعرضونها للبيع في هذه الأسواق سوى كرامة وحرية وعزة الشعوب، وما تجود جغرافيتها من موارد وثروات، مقابل الحماية أحيانًا، ومقابل الرضا أحيانًا أُخرى، وتعمل في ذات الوقت الماكينة الإعلامية التابعة للحكام على تضليل الشعوب وتصوير ما يقترفه هؤلاء الحكام بحقها بأنها إنجازات تسابق الزمن!

 

ومنذ عقود مضت وحكام الشعوب العربية على حالهم، كُـلّ حاكم ينافس أقرانه في أسواق بيع الحرية والكرامة، وحصيلة تنافسهم يصب في سلة أعداء الأُمَّــة؛ فهم المستفيد الأول من تنافس الحكام العرب؛ باعتبَار أن ما يقدمونه من عروض مغرية مقابل أثمان سرابيه ووهمية تذر في أعين الشعوب، لا يمكن لهؤلاء الأعداء أن يحظوا بمثل تلك العروض إلا في جغرافية الحكام العرب، الذين توارثوا المهنة، وكلما شغل مناصب الحكم جيل جديد من الحكام بالوراثة أَو الانقلاب كانوا أكثر تهورًا وقبحًا من سابقيهم في إعلان ما أخفوه أَو موَّهوه من صفقات البيع المشبوهة.

 

وعلى مدى العقود الماضية استخدم الحكام العرب لشرعنه صفقاتهم مع أعداء الأُمَّــة من يوصفون بأنهم علماء، عملوا على ترويض الشعوب وتدجينها للحكام، كما كشف ذلك مبكرًا وتحدث عنه مطولًا السيد القائد الشهيد حسين بدر الدين الحوثي –رضوان الله عليه- لتتقبل شعوب الأُمَّــة كُـلّ ما يصدر عن حكامها تحت عناوين طاعة ولي الأمر وعدم معارضته والخروج عليه؛ باعتبَار ذلك معصية تتنافى مع واجب الطاعة لولي الأمر، وإن كان ما يصدر عنهم متنافيًا تمامًا مع تعاليم الدين الحنيف!

 

ولم تشهد مرحلةٌ من مراحل التاريخ الحديث للأُمَّـة العربية انكشافًا للحكام أمام شعوبهم كما هو حال انكشافهم في المرحلة الراهنة؛ فبسبب التطور الهائل في وسائل الاتصال والتواصل، لم تعد أدق تفاصيل تصرفات الحكام خافية على شعوبهم، وحتى لا تظل أنظار الشعوب مسلّطة فقط على ما تنضح به قصور الحكام من فائض الفسق، تحت عناوين الرفاهية والترف؛ فقد عمل هؤلاء الحكام على تعميم الحالة على شعوبهم، واستبدلوا ما كان معروفًا عند من سبقهم من الحكام بهيئات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، بهيئات الترفيه، وخصصوا لها اعتمادات مالية كبيرة؛ مِن أجلِ تهيئة الشعوب لتقبل قادم الأهوال دون أن يكون لها فعل أَو قول مؤثر!

 

وما أهوال غزة إلا نموذجٌ لذلك القادم الذي يحمله أعداء الأُمَّــة لشعوبها، وما هو مشاهد على أرض الواقع أن الشعوب العربية لا ترى أنها معنية بما جرى ويجري في قطاع غزة من إبادة جماعية؛ فهي مشغولة بحالة الترفيه والترف، التي عممها وأنعم بها الحكام عليها، ولا ترى هذه الشعوب أن هناك تعارضاً بين الحالة التي تعيشها وتغرق في ملذاتها، وبين الحالة التي يعيشها أبناء غزة ويغرقون في دمائهم المسفوكة وأشلائهم الممزقة ظلمًا وعدوانًا، ولم يجد أحدُ حكام العار حرجًا أن يخاطبَ شعبه قائلًا: (عيشوا حياتكم واستمتعوا ولا تعكروا صفوا متعتِكم بالمناظر الدامية).

 

لقد بلغ الحال بتنافس الحكام العرب في عروضهم المتعلقة بموارد وثروات شعوب الأُمَّــة المقدمة لأعدائها بأثمان بخسة سرابية ووهمية، حال أُولئك الباعة أصحاب البضاعة الراكدة، الذين يغرون الزبائن (اشترِ قطعةً وتحصُلَ على أُخرى هدية مجانية) وحال الحكام العرب (خذ مليارًا مجانًا تحصلْ على طائرة عملاقة هدية مجانية) أَو (خُذ مليارَين مقابل صفقات سلاح وهمية وخمسة مليارات هدية مجانية)!

 

والأسوأ في تنافس حكام العار العرب على إهدار حرية وكرامة الشعوب ما أظهره الوافدون الجدد على نظام الحكم في سوريا من هرولة نحو أعداء الأُمَّــة وإغراء لهم بالتعجيل بكل ما لديهم من أساليب الإهانة والإذلال والاحتقار، والواقع يؤكّـد أن الوافدين الجدد ليسوا سوى أدوات تدمير بأيدي الأعداء مهمتهم الأَسَاسية تهيئة الساحة السورية لتقبل الإذلال والاحتقار والإهانة.

 

ويبدو أن عروضَهم المقدمة للأعداء فاقت بكل المقاييس العروض المقدمة من أقرانهم الحكام العرب؛ فلسان حال حكام سوريا الجدد للكيان الصهيوني: (اقصف بإرادتك موقعًا وبإرادتنا اقصف عشرة مواقع) وَ(دمّـر بإرادتك مطارًا وبإرادتنا دمّـر كُـلَّ المطارات العسكرية) وَ(دمّـر بإرادتك عشرَ طائرات مقاتلة وبإرادتنا دمّـر جميع الطائرات والدفاعات الجوية وجميع السفن الحربية) وَ(واحتل بإرادتك الجولان وبإرادتنا القنيطرة وما جاورها).

 

ويوم أمس، حين وقّع ترامب أمرًا تنفيذيًّا برفع العقوبات عن سوريا، كان ذلك محل استغراب جميع الحكام العرب! ومثار تساؤل عن سر السرعة في رفع العقوبات؟ فقد كان من المتوقع أن يستمر الأمرُ أشهرًا على الأقل وعلى لسان الحكام العرب تساءلت الماكينة الإعلامية الناطقة بالعربية (شبكة الجزيرة) وسألت عن سر السرعة في رفع العقوبات؟ وما الذي فعلته سوريا ليعجّل ترامب بقرار رفع العقوبات بكل هذه السرعة؟

 

ليس هناك من سر أيها الحكام سوى عار البيع؛ فقد بعتم على مدى العقود الماضية للأعداء تجزئة وبأثمان بخسة، أما الوافدون على السلطة في سوريا فقد باعوا جملة، وبلا أي ثمن، وهذا هو السر فلا تستغربوا! ورحم الله الكفيفَ المبصِرَ شاعرَ اليمن الكبير عبدالله البردوني، حين أبصر بحواسه عارَكم وتنافُسَكم وتنوع أساليب بيعكم فأنشد قائلًا:

ترقَّى العارُ من بيعٍ إلى بيعٍ بــــلا ثمنِ

ومن مستعمرٍ غازٍ إلى مستعمرٍ وطني