سلاح المقاومة.. رمز الاستمرارية ورفض التصفية
البيضاء نت | مقالات
بقلم / فهد شاكر أبوراس
في قلب المشروع الصهيوني تتجلّى مفارقة تاريخية عميقة: الكيان الذي يسوّق نفسه كقلعةٍ عسكريةٍ منيعةٍ وقوةِ ردعٍ لا تُقهر، يبدو في حقيقته أكثر هشاشةً وخوفًا من حجارة الفتى الفلسطيني، وسكين المقاوم المحاصر، وأنفاق المقاومين، لا من دبابات الجيوش النظامية وطائراتها. فالأسلحة التقليدية، مهما تطورت، تبقى مقيّدةً بمنطق الدولة وأعبائها ورهاناتها، وتدور في فلك صراع القوى العظمى الذي يمكن احتواؤه أَو إدارته. أمّا سلاح المقاومة، فهو تعبيرٌ عن إرادَة شعبٍ يرفض الانكسار، ولا يعترف بمعادلات القوة المفروضة، بل يخترقها من حَيثُ لا تحتسب الآلة العسكرية.
إن الخوف الإسرائيلي الحقيقي ليس من السلاح المادي ذاته، بل من الروح التي تحمله، ومن الشرعية التي يستمدها، ومن الرسالة التي يوجّهها للعالم: أن أرض فلسطين محتلّة، وأن لشعبها الحق في الدفاع عن نفسه. وهذا بالضبط ما تسعى إليه آلة الحرب الإسرائيلية -بدعم أمريكي مطلق وغطاء عربي متطبّع- إلى محوه؛ فهدفهم ليس نزع سلاحٍ ماديٍ مؤقت، بل نزع إرادَة المقاومة وتكريس الاستسلام. وهو ما تؤكّـده الحملة الشرسة على غزة التي تحوّلت إلى إبادة ممنهجةٍ تهدف إلى فرض واقع جديد بالقوة. فالمحتلّ يدرك أن كُـلّ تفوقه التكنولوجي -من طائرات “إف-35” الأمريكية المتطورة، وصواريخ “حيتس 3” المضادة للصواريخ، إلى منظومات الذكاء الاصطناعي مثل منظار “الخنجر”- يصطدم بحقيقة أن المقاومة ما زالت قادرة، بعد عامين من العدوان، على إطلاق صواريخها وتصنيع سلاحها محليًّا رغم الحصار. وهو ما يكشف فشلًا استراتيجيًّا ذريعًا للاحتلال، ويوقعه في مستنقع استنزاف لم يحسب له حساب.
إن هذا الفشل في تحقيق الحسم العسكري هو ما يدفع الكيان ومؤيديه إلى تبنّي استراتيجية مزدوجة: تجمع بين المطرقة العسكرية المباشرة، والحرب النفسية والسياسية الهادفة إلى -نزع سلاح المقاومة- عبر المفاوضات، التي ليست سوى صيغة أُخرى للاستسلام. فالمقاومة ترفض تسليم سلاحها لأن في ذلك “إقرارا بفشل المشروع المقاوم”. كما أن نزع السلاح يعني عمليًّا أن يصبح الكيان الصهيوني -شرطي المنطقة- القادر على فرض إرادته دون وجود من يردعه. وهنا تبرز حقيقة أن السلاح الذي تخشاه (إسرائيل) هو -بحد ذاته- رمز المقاومة وتجسيد لاستمرار القضية ورفضها للتصفية، أكثر من كونه أدَاة قتالية. فالقدرة على إطلاق صاروخين باتّجاه “نتيفوت”، كما فعلت سرايا القدس مؤخّرًا، أَو تصنيع قذيفة هاون موجهة محليًّا في أنفاق كتائب القسام، هي رسالة واضحة بأن الإرادَة الفلسطينية لم تُكسر، وأن التفوق النوعي الإسرائيلي لم ينجح في تحقيق أمنه أَو إقناع الفلسطينيين بأن معركتهم خاسرة.
وفي المقابل، نجد أن التطبيع العربي الرسمي مع الكيان -خَاصَّة من بعض الأنظمة التي أقامت علاقات علنية أَو خفية- يمثّل الدعامة الأَسَاسية الأُخرى لهذه الاستراتيجية. فهو يسعى إلى تطويع المنطقة جغرافيًّا وسياسيًّا لاستمرار المشروع الصهيوني، تحت عناوين منمّقة مثل السلام والاستقرار والشراكة، التي تعمل على ترويض الوعي الجماعي وتطبيع العلاقة مع المحتلّ بآليات نفسية معقدة، مثل فك الارتباط الأخلاقي وتآكل الحساسية الأخلاقية.، حَيثُ يُعزل الفعل الأخلاقي عن التصرف العملي، ويُقدَّم التطبيع مع من يرتكب جرائم إبادة؛ باعتبَاره مُجَـرّد ضرورة واقعية أَو خيارًا عمليًّا أمثل تحت وطأة الضغوط الدولية والوعود الكاذبة. لكن الواقع أن هذا التطبيع لا يعدو كونه استمرارا لنهج الانهزامية، الذي يحاول إقناع الشعوب بأن مقاومة المحتلّ مستحيلة، وأن الخيار الوحيد هو الرضوخ لشروط القوة الغاشمة. غير أن هذا المسار يتجاهل حقيقة أن الشعوب العربية ترفض التطبيع جملةً وتفصيلًا، كما يتجلّى في ردود الفعل الشعبيّة الغاضبة ضد جرائم الحرب في غزة، والتي شكّلت ضغطًا على بعض الحكومات المطبّعة وأحرجتها -مما يؤكّـد أن الشرعية الحقيقية هي لخط المقاومة، لا لمسار الاستسلام.
المقاومة، بسلاحها المتواضع تقنيًّا، تكشف التناقض الجوهري للكيان الصهيوني: فهو من ناحية يدّعي الديمقراطية والتقدم، بينما يمارس على الأرض نظام فصلٍ عنصريٍ موثق في تقارير منظمات حقوقية مرموقة. ومن ناحية أُخرى، بنى أُسطورته على مقولة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، لكن صمود الشعب الفلسطيني ومقاومته دمّـرا هذه الأُسطورة وواجهاها بواقع الوجود والتحدي.
فـسلاح المقاومة ليس مُجَـرّد أدوات بدائيةٍ أَو متطورة، بل هو تجسيدٌ لعدالة القضية. وهذا ما يجعله تهديدًا وجوديًّا للنموذج الصهيوني القائم على التفرد والقوة الغاشمة. بينما أسلحة الجيوش النظامية، رغم خطورتها، تظل جزءًا من لعبة التوازنات الإقليمية التي يعرف الكيان كيف يتعامل معها بمنطق القوة التقليدي.
الخلاصة المحورية: المعركة الحقيقية هي معركة إرادات، والسلاح الأهم هو سلاح الشرعية والصمود. وصناعة المقاومة المحلية للأسلحة ليست إلا دليلًا على إبداع الشعب وقدرته على تحويل أبسط الإمْكَانيات إلى أدوات تحرّر. وهو درسٌ تجسّد بوضوح في انتفاضة الحجارة، حَيثُ كان الحجر سلاحًا رمزيًّا هزّ عرش المحتلّ. وهذا ما يفسّر إصرار الكيان الصهيوني على نزع هذا السلاح بالذات؛ لأنه يدرك أن نزعه يعني نزع الروح المقاومة، التي تبقى القلب النابض لقضية فلسطين، وقضية كُـلّ الأحرار في العالم.