ضربة معلّم

البيضاء نت | مقالات

بقلم / رهيب العتبي

 

لم تكن الخطوة التي أقدمت عليها حركة حماس مُجَـرّد ردّ فعلٍ على التطورات الميدانية أَو السياسية الأخيرة، بل كانت مناورةً محسوبةً بدقة تعكس نضجًا سياسيًّا ووعيًا متقدّمًا بإدارة التوازنات الدولية.

الحركة التي اعتاد العالم رؤيتها في إطار المقاومة العسكرية، أثبتت أنها تمتلك عقلًا سياسيًّا قادرًا على إدارة المشهد الإقليمي والدولي بما يخدم مصالحها وقضيتها دون أن تتنازل عن ثوابتها أَو أوراق قوتها.

منذ بداية العدوان على غزة، سعت (إسرائيل) جاهدة إلى تصوير حماس كجهة خارجة عن المنطق السياسي، تُعرقل الحلول وتتحمل مسؤولية معاناة الشعب الفلسطيني، لكن الخطوة الأخيرة من الحركة التي نجحت من خلالها في نقل الضغط نحو (إسرائيل) نفسها شكّلت تحولًا جوهريًّا في المعادلة؛ إذ وجدت تل أبيب نفسها فجأة في موقع المُدافع عن أفعالها أمام المجتمع الدولي بدلًا عن أن تكون الطرف الذي يملي الشروط.

هذا التحول لم يكن ليحدث لولا إدراك حماس أن المعركة لم تعد تُحسم في الميدان فقط، بل في ساحات الرأي العام والدبلوماسية الدولية، فبذكاءٍ لافت تمكّنت الحركة من كسر الرواية الإسرائيلية في عقر دارها الإعلامي والسياسي، وجعلت حتى أكثر الأطراف انحيازا لتل أبيب، كالإدارة الأميركية، تتراجع عن موقفها الصلب وتطالب بوقف القصف فورًا.

وحين يخرج الرئيس الأميركي دونالد ترامب المعروف بانحيازه المطلق لكيان الاحتلال مطالبًا بوقف فوري للقصف على غزة، فهذا لا يمكن اعتباره مُجَـرّد تصريحٍ عابر، بل هو نتيجة ضغطٍ سياسي ودبلوماسي متصاعد جعل البيت الأبيض يشعر بأن استمرار المذبحة لم يعد يخدم مصالح واشنطن في المنطقة، خُصُوصًا مع تصاعد الغضب الشعبي والدولي، وتنامي الأصوات التي تحمل كيان الاحتلال مسؤولية الجرائم بحق المدنيين.

وحماس بدورها أحسنت استثمار هذا الموقف، فلم تتعامل معه كمنحةٍ أَو تعاطفٍ مؤقت، بل كمؤشرٍ سياسي يمكن البناء عليه لإعادة ترتيب أوراقها الإقليمية والدولية.

فقد باتت في موقع الطرف الذي يفرض التوازن ويدير الموقف بذكاء، لا كحركةٍ مطاردة أَو محاصرة.

لقد أدركت حماس أن السياسة لا تقل أهميّة عن السلاح، وأن النصر لا يُقاس فقط بعدد الصواريخ التي تُطلق، بل بمدى القدرة على توجيه الأحداث وتحويل الضغط إلى مكسب.

ومن خلال استثمار اللحظة بدقة، استطاعت أن تحوّل الهجوم إلى فرصة، وأن تفرض على العالم رغم كُـلّ الانحيازات أن ينظر إليها؛ باعتبَارها طرفًا لا يمكن تجاوزه في أية تسوية مقبلة.

هذه الخطوة لم تُظهر فقط حنكة في إدارة الأزمة، بل كشفت عن وعيٍ متراكم بتطور أدوات الصراع.

فحماس اليوم تتقن فن “المقاومة السياسية” بنفس القدر الذي تتقن فيه “المقاومة العسكرية”.

إنها تُحارب على جبهتين: جبهة الحديد والنار، وجبهة الخطاب السياسي والإعلامي، وتنتصر في كليهما.

وفي زمن الصورة، من يكسب الكاميرا يكسب المعركة، وحماس رغم الحصار الإعلامي نجحت في كسب تعاطفٍ عالمي غير مسبوق.

فقد أصبحت صور الدمار والضحايا التي خلّفها العدوان مادة تُدين كيان الاستباحة يوميًّا، بينما نجحت الحركة في أن تقدم نفسها كصوتٍ مقاومٍ مسؤولٍ يسعى لحماية شعبه لا لجرّه إلى الهلاك.

هذا التحوّل في الرؤية العالمية ما كان ليحدث لولا الإدارة الواعية التي حرصت على ضبط الخطاب السياسي والإعلامي للحركة في أصعب الظروف.

نتيجة هذه “الضربة المعلّم” أن حماس اليوم باتت أكثر حضورًا على الساحة السياسية.

فبعد أن حاول الاحتلال لسنوات إقصاءها ونزع شرعيتها، عادت لتفرض نفسها كقوةٍ سياسيةٍ لا يمكن تجاهلها، تمتلك شرعية المقاومة وواقعية الإدارة.

هذه المكانة لا تأتي فقط من قوتها العسكرية، بل من نضجها السياسي وقدرتها على قراءة المتغيرات واستثمارها بمهارة.

وبهذه الخطوة أثبتت حماس أن المعركة مع العدو لم تعد معركة سلاحٍ ضد سلاح، بل هي معركة وعيٍ وإرادَة وذكاءٍ سياسي، فالذي يملك القدرة على إدارة اللحظة وتوجيهها هو من يربح الحرب مهما طال أمدها.

لقد كانت “ضربة معلّم” بحق، ضربةٌ أعادت التوازن للمعادلة، ووضعت الاحتلال في زاوية الدفاع، وذكّرت العالم بأن فلسطين ما زالت قادرة على إنتاج الفعل السياسي المقاوم، لا البكاء على الأطلال.

وهكذا تتحول الحنكة السياسية إلى أدَاة مقاومة جديدة توازي في قوتها الرصاصة والصاروخ، وتؤكّـد أن من يملك الوعي يملك النصر في النهاية.