بعد الهدنة.. نازحو غزة بين الركام والخوف والفقر: هدنة لا تُشبه السلام

البيضاء نت | تقرير 

مع الساعات الأولى لإعلان وقف إطلاق النار في العاشر من أكتوبر، عمّت أصوات التكبير والزغاريد الخجولة أرجاء مخيمات النزوح في غزة. بدا المشهد كاستراحةٍ قصيرة في حربٍ طويلة؛ عناقٌ سريع للحياة قبل أن يعود الموت ليخيّم من جديد.
لكنّ فرحة النجاة لم تدم طويلًا. فبعد الهدنة، وجد النازحون أنفسهم أمام واقعٍ آخر لا يقل قسوة عن القصف: الخوف من تجدد العدوان، والفقر الذي يطوقهم، والركام الذي يسد طريق العودة.

العودة المؤجلة.. خوفٌ من المجهول

في مخيم الإيواء غرب دير البلح، تجلس أم محمد منصور (39 عامًا) أمام خيمتها، تحدق بصمت في أطفالها الثلاثة وهم يلعبون فوق الرمل، كأنهم يحاولون نسيان الحرب بحفنة تراب.
تقول لصحيفة فلسطين:

“حين سمعنا بخبر وقف إطلاق النار، ظننت أن المعاناة انتهت. احتضنت أولادي وبكينا من الفرح، لكن بعد أيام فقط عاد القصف على رفح، فعرفت أن الحرب لم تنتهِ فعلًا.”

تخفض صوتها وتضيف:

“أخاف أن نعود فندفع الثمن مرة أخرى. لا أريد أن أعرّض أطفالي للرعب من جديد. طالما لا توجد ضمانات حقيقية، سنبقى نعيش على أمل العودة فقط.”

كلماتها تختصر خيبة آلاف العائلات التي تحلم بالعودة إلى بيوتها، لكنها تخشى أن يتحول الحلم إلى كابوس جديد.

معركة البقاء في خيمةٍ بالية

أما خالد ناصر (46 عامًا)، فيعيش في خيمةٍ مهترئة صنعها من أقمشة المساعدات بمنطقة المواصي غرب خان يونس. يجلس قرب موقدٍ صغير يشعل عليه عيدان خشب، يراقب الرماد كما لو كان بقايا أيامه قبل الحرب.
يقول:

“أريد أن أعود إلى بيتي، لكن كيف؟ سائقو الشاحنات يطلبون اليوم ما بين 2000 و3000 شيكل لنقل العائلة من الجنوب إلى غزة. من أين لي بهذا المبلغ؟ لا عمل، لا مال، ولا مستقبل في هذه الخيمة.”

ويبتسم بمرارة:

“يظن الناس أن وقف الحرب يعني نهاية العذاب، لكنه بالنسبة لنا بداية جديدة لمعركة البقاء. من يملك المال يعود، ومن لا يملكه يبقى هنا ينتظر المجهول.”

العودة إلى الموت

في شمال القطاع، تواجه سمر أبو سلمية (34 عامًا) خطر الموت في طريق العودة إلى بيت لاهيا. منطقتها تقع ضمن ما يسميه الاحتلال “الخط الأصفر” — منطقة يمنع الفلسطينيون من دخولها.
تقول سمر بصوتٍ متعب:

“يمنعوننا من الاقتراب، ويطلقون النار على أي مركبة تحاول الدخول. كيف نعود ونحن نعلم أننا قد نموت في الطريق؟”

تُري صورة منزلها المدمّر على هاتفها القديم وتتابع:

“حتى لو سمحوا لنا بالعودة، فإلى ماذا سنعود؟ لا ماء، لا كهرباء، لا مدارس. بيتي أصبح كومة من الركام، والمستشفى الذي كنت أراجع فيه أطفالي لم يعد قائمًا.”

ثم تضيف بصوتٍ يختنق بالحزن:

“قبل أيام فقط، استُهدفت عائلة شعبان في حي الزيتون أثناء عودتهم إلى منزلهم داخل الخط الأصفر. استُشهد 11 شخصًا بينهم سبعة أطفال. كانوا فقط يريدون العودة إلى بيتهم.. لكنهم عادوا إلى الموت.”

ثلاثية المعاناة

بين خيمةٍ ممزقة وبيتٍ تحوّل إلى غبار، يعيش نازحو غزة في انتظارٍ مفتوح: لا عودة آمنة، ولا حياة كريمة في النزوح.
الخوف يحاصرهم من السماء، والفقر يقيدهم على الأرض، والركام يقطع طريقهم نحو البيت.
ورغم هذه الثلاثية القاسية، تبقى غزة – كما دائمًا – تنهض من تحت الركام لتقول للعالم: إن الحياة في هذه الأرض لا تُهزم، حتى وإن تأخرت العودة.