قائدٌ لا يفارق ميزانَه «4»
البيضاء نت | مقالات
بقلم / بشير ربيع الصانع
حين تُستحضَر هذه الصفات العالية، تُرى حياة تمشي على الأرض، وتُختبر في الموقف، وتُقاس بميزان العمل.. وحين يُذكَر السيد القائد عبد الملك بدر الدين الحوثي – يحفظه الله – تخرج هذه المعاني من حدود الوصف إلى واقعٍ مشهود، كأنها خُلِقت لتُجسَّد لا لتُروى.
هو رجلٌ يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل؛ لا يُغريه أثر العمل عن محاسبة النية، ولا يُطمئنه حجم الإنجاز عن استحضار التقصير.
يظهر ذلك في محاضراته قبل سلوكه؛ حديثٌ لا يحمل نبرة المنتصر المتعالي، بل صوت العبد الذي يخشى أن لا يكون قد وفّى الأمانةَ حقها.
هذا الوجل هو وعيٌ عميق بثقل التكليف، وصدقٌ مع الله قبل الناس.
يمسي وهَمُّه الشكر، ويصبح وهمّه الذكر.
عبارة تلمسها في ثباته أمام المتغيرات، وفي هدوئه حين تضجّ الساحات.
من يبدأ يومه بذكر الله، لا تُربكه المفاجآت، ومن يختمه بالشكر، لا تَسكن قلبه المرارة: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ}؛ هكذا تتشكّل طمأنينة القائد من صلته بما فوق الواقع.
يبيت حذرًا ويصبح فرحًا؛ حذرًا من الغفلة، وفرحًا بما أصاب من الفضل والرحمة: {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا}.
حذرُه لا يعني انغلاقًا، وفرحُه لا يتحوّل إلى غفلة.
وفي أحلك الظروف، لا يُغلِق عينيه عن المخاطر، لكنه لا يسمح للخوف أن يصادر الأمل.
لذلك بقي متزنًا: لا تهوين يميّع، ولا تهويل يُربك، بل قراءة واعية للمرحلة، تصدر عن قلبٍ يقظ وإيمانٍ راسخ.
وإذا استصعبت عليه نفسه فيما تكره، لم يُعطها سُؤلها فيما تحب: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ}.
هنا تتجلّى القيادة على حقيقتها؛ قهر النفس قبل إدارة الآخرين.
كثيرون يُحسنون ضبط الناس، لكن القليل من يضبط نفسه عند المغريات والضغوط.
هذا الانضباط الداخلي هو الذي جعل قراره – في أحلك المنعطفات – بعيدًا عن الانفعال، ومحصّنًا من النزوات.
قرة عينه فيما لا يزول، وزهادته فيما لا يبقى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخرة خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ}.
لذلك لم تُرهِقه زخارف السلطة، ولم تُبدّل فيه المسؤولية ملامح الإنسان.
بقي بسيطًا في تعامله، واضحًا في قراراته، غير مشغول بتكديس المكاسب، بل بتثبيت القيم.
ومن زهد فيما يفنى، سَهُل عليه أن يصبر في طريقٍ طويلٍ.. يمزج الحِلم بالعلم، والقول بالعمل.
لا ينفصل تحليله عن أخلاقه، ولا يسبق خطابُه سلوكَه.
ما يدعو إليه، يلتزم به؛ وما يُحذّر منه، يتنزّه عنه.
لذلك محاضراته بناء وعيٍ ومنهجٍ متماسك.
سهلٌ أمره، حريزٌ دينه.
هذه الصفات تظهر في علاقته بالناس: لا تعقيد، لا تكلّف، لا استعلاء.
وفي الوقت نفسه، صرامة مع النفس، وحراسة للقيم، وإغلاق للأبواب التي تُضعِف الروح.
من هنا استمدّ احترامَ الناس قبل ولائهم.
مكظومًا غيظُه، الخير منه مأمول، والشر منه مأمون: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
في زمن الاستفزازات، لا يُستدرَجُ إلى ردودِ فعلٍ تُفرح الخصمَ أَو تُربك الصف.
يملك القدرةَ على الغضب، لكنه يملك ما هو أسمى: القدرة على ضبطه.
هذا ما جعل الموقف – مهما اشتد – محكومًا بالعقل.
في الزلازل وقور، وفي المكاره صبور، وفي الرخاء شكور: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
لا يتبدّل بتبدّل الأحوال، ولا يتلوّن بتغيّر الظروف.
إذَا اشتدّت الأزمات، ازداد هدوءًا، وَإذَا اتّسعت المساحات، ازداد ثباتًا؛ ثبات تصنعُه القيمُ الراسخة.
لا يحيف على من يُبغِض، ولا يأثم في من يُحِب.
ميزانه بالحق، وليس بالعاطفة: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}.
لذلك رغم حدّة الصراع، تراه منضبطًا بمعايير العدل، لا تُلغِيه الخصومة، ولا تُعمِيه المحبة.
يعترفُ بالحق قبل أن يُشهَد عليه، ويؤدّي الأمانةَ قبل أن يُطالَب بها.
نفسُه منه في عناء، والناسُ منه في راحة.
أتعب نفسه لآخرته، وأراح الناس من نفسه: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أنفسهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ}.
هذه خلاصة القيادة التي تُبنى من الداخل: تضحية صامتة، وتحميل للنفس ما لا يُحمَّل للآخرين، حتى لا يتحوّل التكليف إلى عبء على الأُمَّــة.
بعدُه عمّن تباعَدَ عنه زهدٌ ونزاهة، ودنوُّه ممّن دنا منه لينٌ ورحمة: {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ}.
لا قطيعة متكبّرة، ولا قربٌ مخادع.
علاقة متّزنة، تقومُ على الوضوح، وتحكُـــمُها الأخلاق.
من يتأمل هذا كله، يرى إنسانًا يمشي في واقعٍ صعب، بنفسٍ مُروَّضة، وقلبٍ يقِظ، وميزانٍ لا يختلّ: {قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا}.
هكذا تُفهَم هذه القيادة؛ من السلوك اليومي، ومن الثبات الطويل، ومن القدرة على أن يكون الإنسانُ أشدَّ على نفسه من شدّته على الواقع.
وللحديث بقية.