سقوط عربدة الهيمنة أمام الإرادة الصامدة!!
البيضاء نت / مقالات
بقلم / يحيى الربيعي
يشهده العالم اليوم فصلٌ جديد من فصول العدوان الصهيوني الغاشم، تتغذى نيرانه من أيادي الدعم الغربي الأمريكي اللامحدود. إنه مشهدٌ تتجلّى فيه مرارة خيانة بعض الأنظمة العربية والإسلامية التي أدارت ظهرها لقضايا الأمة المصيرية، وفي طليعتها القضية الفلسطينية، تاركةً الساحة للعدو ليعيث فيها فساداً وعربدة، ساعياً لفرض معادلة الاستباحة على أمتنا، وأن تكون يده مطلقة ليفعل ما يشاء ويريد ضد أي بلد عربي أو مسلم. إن أخطر ما يمكن أن يقبل به المسلمون، حكومات وشعوباً، هو الخضوع لهذه المعادلة الظالمة التي تسلبهم الأمن، الاستقلال، والكرامة.
غارات الفجر وفرضيات المواجهة
في ساعات الفجر الأولى من يوم الجمعة الموافق 13 من يونيو، اخترقت طائرات “إف-15” التابعة لكيان العدو الصهيوني حدود الجغرافيا، متجاوزة كل الخطوط الحمراء، لتلقي بقنابلها الحارقة على الأرض الإيرانية. لم يكن هذا العدوان مفاجئاً تماماً في نواياه، بل جاءت مؤشراته تتراكم، من فشل “الكنيست” الإسرائيلي في حل حكومة نتنياهو، إلى قرار واشنطن تقليص حجم بعثتها الدبلوماسية في العراق، وتهديدات إسرائيلية سابقة بشن هجمات على المنشآت النووية، وصولاً إلى قرار مجلس محافظي الوكالة الدولية للطاقة الذرية الذي وفر غطاءً سياسياً لهذا العدوان.
لقد زعمت سلطات العدو أن ضرباتها استهدفت منشآت نووية ومصانع صواريخ باليستية، وقادة عسكريين وعلماء نوويين، في زعمٍ يائس بأن ذلك يشكل بداية لعملية مطوّلة لمنع طهران من صنع سلاح نووي. لكن الحقيقة سرعان ما تكشّفت؛ فوسائل الإعلام الإيرانية وشهود العيان أفادوا بوقوع انفجارات في مواقع عدة، من بينها منشأة نطنز الرئيسية لتخصيب اليورانيوم، بينما أعلنت “السلطات العبرية” حالة الطوارئ تحسباً لرد إيراني وشيك. ومع ذلك، جاء بيان الوكالة الدولية للطاقة الذرية ليؤكد استمرار مفتشيها في تقديم تقارير عن الوضع الميداني، وأنه لم يُرصد أي تسرب للمواد الإشعاعية، ولم تحدث زيادة في مستويات الإشعاع في موقع نطنز، مما يشير إلى أن الضربة، وإن كانت عدوانية، لم تحقق أهدافها المعلنة بشكل كامل.
إرادة صامدة في وجه العدوان
إن إقدام سلطات العدو على استهداف “نطنز” يضع الأحداث أمام احتمالين لاستهداف المنشآت النووية: إما أن سلطات العدو حاولت بالفعل تدمير المنشأة النووية بالكامل لكنها فشلت في ذلك، أو أنها أرادت إخراج المنشأة عن العمل بشكل لا يسمح بتسريب نووي قد يصل أثره إلى دول مجاورة، مما يعني أن الضربة كانت محدودة في تأثيرها العملياتي. تقع منشأة نطنز، وهي قلب البرنامج النووي الإيراني، عند سفوح سلسلة جبال كركس، مما يوفر غلافاً طبيعياً جبلياً يعزز الحماية. لقد بُنيت على عمق يقدّر بين 8 و23 متراً ضمن مصفوفات خرسانية مسلحة بسمك أمتار عدة، وتحتوي على سقف إسمنتي مقوى يُعتقد أنه قادر على امتصاص أو تحمل القصف التقليدي. كما أنها محمية بأنظمة دفاع جوي متطورة، وقد شهدت توسيعاً في السنوات الأخيرة لتصبح شبه منيعة ضد الهجمات الجوية الأمريكية التي تستخدم القنابل الخارقة للتحصينات. هذا الصمود البنيوي، يقف شاهداً على الإرادة الإيرانية الصامدة في وجه الأطماع الصهيو-أمريكية.
قنابل ومقاتلات وطائرات مسيرة… ولكن!
لم تكن ترسانة العدو الصهيوني أقل ضراوة، فقد استخدموا ذخيرة الهجوم المباشر المشترك (JDAM)، وأطقم قنابل سبايس (SPICE)، وقنابل خارقة للتحصينات مثل “جي بي يو 28″، بالإضافة إلى صاروخ رامبيج (Rampage). وقد أعلن جيش العدو الإسرائيلي أن عشرات المقاتلات من طراز “إف-15″ و”إف-16” نفذت عملية أطلق عليها اسم “الأسد الصاعد”، ووصفها بـ”الضربة الافتتاحية” في قلب إيران، تلتها هجمات وضربات أخرى بمشاركة 200 مقاتلة و300 قنبلة، مستهدفة نحو 100 هدف.
لكن الأمر لم يقتصر على الطائرات المقاتلة، فقد نقلت تقارير إسرائيلية أن الموساد أعد للهجوم على مدى أشهر، بما في ذلك زرع عملاء في إيران لتشغيل طائرات مسيرة هجومية أحادية الاتجاه وصواريخ مضادة للدروع، وإنشاء قاعدة سرية للطائرات المسيرة “في قلب إيران” لتحييد الدفاعات الجوية. لقد استهدفت هذه المسيّرات الإسرائيلية موقع دفاع جوي قرب طهران قبل بدء العملية، ممهدة الطريق لشن هجوم أوسع. ورغم كل هذه الاستعدادات والترسانة، فإن الواقع أثبت أن العدو الصهيوني تورط في عدوانه على الجمهورية الإسلامية، وأن العدوان الصهيوني لن يتجه بإيران إلى الانهيار والضعف، بل هو فرصة لإلحاق الهزائم الكبيرة بالعدو والتنكيل به، وفرصة لإعادة الاعتبار للجمهورية الإسلامية وللأمة بكلها تجاه غطرسة وإجرام العدو الإسرائيلي.
قلق وجودي لا تفوق كاسح
على الرغم من ضراوة الضربات الإسرائيلية وعمق التخطيط الاستخباراتي وتنوع أدوات الهجوم، فإن ما تكشفه هذه العملية في جوهرها ليس قوة العدو الصهيوني بقدر ما يكشف مأزقها الوجودي. فالهجوم ليس تعبيراً عن ثقة استراتيجية أو تفوق كاسح، بل عن قلق متزايد مع كل يوم تقترب فيه إيران من عتبة النووي العسكري، ومع كل جبهة مقاومة جديدة تُفتح ضد “إسرائيل”. إيران، بخبرتها الطويلة في إدارة الحصار والصراع، لم تعد خصماً يمكن تحييده بضربة جوية أو عمليات استخباراتية نوعية، بل تحولت إلى خصم شبكي مرن. ومقابل ذلك، تظهر “إسرائيل” كطرف قوي يهاجم من موقع الارتباك ويتحرك دون استراتيجية خروج واضحة.
تشير معظم التقديرات إلى أن الضربات الإسرائيلية بمفردها قد تؤخر البرنامج النووي الإيراني لأشهر عدة فقط، بينما قد تؤخره الضربات الأمريكية لمدة تصل إلى عام. ووفق التصعيد العسكري المتسارع وطبيعة الهجوم الإسرائيلي المدعوم أمريكياً، يبدو مرجحاً أن تسارع إيران الآن جاهدة نحو امتلاك سلاح نووي، لا بديل عن امتلاكه إذا ما استطاعت أن تخرج من هذا التصعيد الذي يهدد وجودها. لقد حذّر علي لاريجاني، المستشار المقرب للمرشد الأعلى الإيراني، من أن “طهران لا تسعى إلى امتلاك سلاح نووي، لكن لن يكون أمامها خيار سوى القيام بذلك” في حال تعرضها لهجوم، لأن الشعب سيطالب به. اليوم، بات واضحاً أن العدوان قد يفتح الباب لمرحلة جديدة من الاستراتيجية والعقيدة النووية الإيرانية، لا سيما إذا استمر الغرب في التواطؤ، وتجاهل الحق الإيراني في الدفاع عن أمنه القومي بكل الوسائل المتاحة، ففي الجغرافيا السياسية، ليست القنبلة أخطر من منطق “الإفلات من العقاب”.
رسالة مدوية من عمق الأرض
لقد جاء رد الفعل الإيراني متناسقاً مع حجم العدوان وتأثيراته على المراكز القيادية. فكانت الخطوة الأولى بملء الفراغات القيادية، حيث أصدر الإمام الخامنئي قرارات بتعيينات جديدة في قيادة الحرس الثوري والأركان، والقوة الجوفضائية، والمراكز الأخرى المهمة. وفي خطاب متلفز، أكد السيد
الخامنئي أن “لن يسكت الشعب الإيراني عن دماء شهدائه الأجلّاء، ولن يغضّ الطرف عن انتهاك سماء بلاده. قوّاتنا المسلّحة متأهّبة، ويقف خلفها مسؤولو البلاد وكلّ أبناء الشعب”. وتوعد الرئيس الإيراني الدكتور مسعود بزشكيان “إسرائيل” برد قوي يجعلها “تندم” على العدوان.
في فجر 14 أبريل/نيسان، دوت صافرات الإنذار في “تل أبيب” وعموم الأراضي المحتلة، وظهرت على شاشات المراقبة أسراب من المسيّرات والصواريخ، خرجت مباشرة من إيران لتتخذ مساراً واضحاً ومعلناً نحو كيان الاحتلال. جاء ذلك رداً على الهجوم على القنصلية الإيرانية في دمشق، في تغيرٍ معلن لقواعد الاشتباك وتوتر عالٍ جعل العالم يترقب طبيعة الرد الإيراني. تعد هذه هي المرة الأولى التي تنطلق فيها ضربة مباشرة من إيران باتجاه “إسرائيل” في الأراضي المحتلة وليس عبر وكلاء. وعلى الرغم من محدوديتها، فقد اتضح أن إيران لا تريد حرباً شاملة، بل تسعى لنقل الصراع مع “العدو الإسرائيلي” إلى درجة من درجات توازن الردع، دون التورط في صراع طويل غير مأمون العواقب، خاصة إذا ما قاد الهجوم إلى تدخل الولايات المتحدة كطرف مباشر.
المسيّرات الإيرانية ورقة رابحة
تمتلك إيران عدداً من المسيّرات بمدى يصل بها إلى حدود “فلسطين المحتلة” بل ويتخطاها، أشهرها “فطرس” و”مهاجر-10″. لكن العلامة الفارقة في صناعة المسيّرات الإيرانية هي طائرة “شاهد-136” الانتحارية، التي اكتسبت شهرة واسعة لاستخدامها في الحرب على أوكرانيا، حيث أدت دوراً بارزاً في مساعدة الروس. من أهم ما يميز “شاهد-136” أنها رخيصة الثمن نسبياً، كما أنها تعمل على استنزاف موارد الطرف الآخر، إذ تضطر الأنظمة الدفاعية المتطورة إلى استخدام صواريخ اعتراضية أغلى بكثير لإيقافها. تعود كلمة السر وراء تطوير صناعة المسيّرات الإيرانية إلى ثمانينيات القرن الماضي، حيث فُرضت على إيران حزمة من العقوبات الدولية التي أثرت بقوة على جيشها. من هنا، سعت طهران للاستفادة من البدائل الرخيصة التي يمكن تصنيعها محلياً.
إن المسيّرات سلاح مرن وديناميكي إلى حد كبير، متعدد الاستخدامات وقادر على التكيف مع مجموعة من السيناريوهات والأهداف، ويمكن توظيفه لابتكار تكتيكات غير مسبوقة. يكون لذلك أهمية خاصة حينما تعمل المسيّرات معاً في أسراب تكتيكية يمكن أن تُشبع قدرات أنظمة الدفاع الجوي فتتجاوز حدود قدرتها على الصدّ، وتعطل الاتصالات والخدمات اللوجستية. يتدرب الحرس الثوري الإيراني بشكل متزايد على تكتيكات الأسراب والعمليات المتزامنة، وقد أظهر الهجوم الأخير على “الكيان الإسرائيلي” فاعلية هذا النوع من الضربات المشتركة، حيث يعتقد أن إيران أطلقت مسيّرات وصواريخ كروز وصواريخ باليستية معاً.
استراتيجية الحرب غير المتكافئة والدفاع الأمامي
تتبع إيران نهجاً يدعى “الدفاع الأمامي”، وتعمل من خلاله على نقل المواجهة بعيداً عن العمق الإيراني، حيث قامت ببناء محور مواجهة يُعلن رفضه للهيمنة الأمريكية الإسرائيلية في المنطقة، مما مكنّها من إيجاد حضور واضح ومؤثر عبر حلفاء في دول مثل اليمن ولبنان وسوريا. إن الانتصار في الرد الإيراني هو مصلحة لكل دول المنطقة، لأن العدو الإسرائيلي خطر عليها وفي المقدمة الدول العربية. من المهم لكل دول المنطقة أن تؤيد الموقف الإيراني وأن تدرك أنه لمصلحتها جميعاً، لأن المنطقة بحاجة لردع العدو الإسرائيلي. ردع العدو ومنعه من الانفلات والبلطجة ومن فرض معادلة الاستباحة مسألة مهمة ولمصلحة الجميع في المنطقة.
الخيال في مواجهة الواقع
تواجه “حكومة” المجرم بنيامين نتنياهو تحديات جمة في تحقيق أهدافه المعلنة تجاه إيران، والتي تشمل إسقاط نظامها السياسي، وإنهاء طموحاتها النووية، وتعطيل قدراتها العسكرية. تكشف التقارير أن هذه الأهداف، التي تُروّج لها غالباً من خلال الضغط العسكري والتهديد، تواجه عقبات كبيرة، بل ومن المرجح أن تؤدي إلى نتائج عكسية تماماً. فبدلاً من إضعاف إيران، تؤدي الإجراءات العدوانية إلى تعزيز تماسكها الداخلي، وتسريع برنامجها النووي كقوة ردع، وتعزيز قدراتها العسكرية الذاتية، وتوسيع نفوذها الإقليمي، مما يدفع المنطقة نحو صراع أوسع. إن تحقيق تغيير النظام في إيران من خلال الضغط الخارجي هو هدف محفوف بالتعقيدات، وتاريخياً، أثبتت المحاولات السابقة أنها تؤدي غالباً إلى نتائج عكسية، مما يعزز تماسك النظام بدلاً من إضعافه.
يد واحدة في وجه العدوان
إن أي بلد إسلامي يدخل في مواجهة مع العدو الإسرائيلي فإن المسؤولية والمصلحة الحقيقية للأمة هي في مساندته وتأييد موقفه. نحن في اليمن، وكما أكد قائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي، نؤيد الرد الإيراني وشركاء في الموقف بكل ما نستطيع. ونحن مستمرون في الإسناد لغزة ونصرة الشعب الفلسطيني وفي حرب مفتوحة مع العدو الإسرائيلي. إن موقف اليمن ثابت ومستمر في إطار مهامنا الجهادية في سبيل الله تعالى. فالعدو الإسرائيلي في عدوانه على الجمهورية الإسلامية في إيران يستبيح أجواء دول عربية ولا يبالي بها، بل يعتبرها ضمن مخططه الصهيوني ومن البلدان التي يسعى إلى احتلالها والسيطرة عليها. الأمة بحاجة إلى استعادة معادلة الردع في مواجهة العدو الإسرائيلي وليس القبول بمعادلة الاستباحة.
الخلاصة.. زمن الهيمنة قد ولّى
ختاماً، إن هذا المشهد المتصاعد يؤكد حقيقة ثابتة مفادها أن زمن الهيمنة المطلقة قد ولى، وأن محور المقاومة يتبنى موقفاً صلباً لا يداهن، رافضاً الغطرسة الاستكبارية بجميع أشكالها. اليوم، ومع توحّد الشعب الإيراني خلف قيادته، ومع جهوزية القوات المسلحة، لم تعد المواجهة كما كانت، ولم يعد الكيان الصهيوني هو من يتحكم بتوقيت الحرب وشكلها. الرسالة وصلت، والعدو أدرك معناها: من يبدأ النار في طهران.. سينام تحتها في “تل أبيب”.
هل ستفهم قوى العدوان هذه الرسالة، أم ستستمر في عربدتها الانتقامية التي لن تزيد المنطقة إلا لهيباً وصراعاً؟