التآزُر والتآمر

البيضاء نت | مقالات 

بقلم/ د. عبدالرحمن المختار

 

اندلعت المواجهاتُ العسكرية بين القوات الروسية والأوكرانية منذ أربع سنوات، تحديدًا في عام 2022، ومنذ ذلك التاريخ وحتى اليوم حظيت أوكرانيا ولا تزال تحظى بدعم وإسناد ومؤازرة الحكومات الغربية، وتحديدًا الأُورُوبية، بعد أن خفّضت الإدارة الأمريكية من مستوى دعمها عقب تولي ترامب منصب رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، التي سبق لها دعم أوكرانيا بأكثرَ من مِئتي مليار دولار.

 

ولم يتوقفِ الدعمُ العسكري من جانب الإدارة الأمريكية، بل اشترط ترامب أن تدفع الدول الأُورُوبية قيمة الأسلحة والمعدات العسكرية التي تزود بها الإدارة الأمريكية أوكرانيا. ولم يكتف ترامب بتحميل الدول الأُورُوبية قيمة الأسلحة والمعدات العسكرية الأمريكية، بل تعهّد أن يستعيد الأموال التي ساهمت بها الإدارة الأمريكية في دعم أوكرانيا في عهد بايدن.

 

ولم يتغير موقفُ الدول الأُورُوبية في مؤازرة أوكرانيا، بل تصاعد علنًا وبشكل أكبر، ولم يقتصر على تقديم الدعم المالي وشحنات الأسلحة والمعدات العسكرية المختلفة، بل شمل المؤازرة السياسية والمتابعة المُستمرّة لتطورات الحرب وكل ما يرتبط بها من جهود لوقفها، خُصُوصًا تلك التي تبناها ترامب.

 

وكان للدول الأُورُوبية موقف معارض مما تعرض له رئيس أوكرانيا من ضغوط وتوبيخ في البيت الأبيض خلال زيارته السابقة قبل أشهر. وتفاديًا لتكرار ذلك في زيارة يوم، أمس، التي جاءت عقب القمة الروسية-الأمريكية بين بوتين وترامب في ألاسكا، فقد اتخذت المؤازرة الأُورُوبية شكلًا مختلفًا، ليس لاحقًا لما يمكن أن يتم في زيارة الرئيس الأوكراني إلى البيت الأبيض، بل سابقًا ومعاصرًا لها.

 

فقد تقاطر رؤساء الدول والحكومات الأُورُوبية إلى العاصمة الأمريكية واشنطن لمؤازرة رئيس أوكرانيا في لقائه بالرئيس الأمريكي، لمنع تكرار ما حدث في الزيارة السابقة. فكان الرئيس الفرنسي والمستشار الألماني، ورئيس الحكومة البريطانية ورئيسة الحكومة الإيطالية، ورئيس فنلندا، وأمين عام حلف الناتو، ومسؤولة السياسات الخارجية بالاتّحاد الأُورُوبي، حاضرين في لقاء ترامب بالرئيس الأوكراني، وتحدثوا جميعًا مؤكّـدين استمرار دعمهم وإسنادهم ومؤازرتهم لأوكرانيا في حربها مع روسيا.

 

ورغم أن أوكرانيا ليست في قلب أُورُوبا حتى تحظى بكل هذه المؤازرة، بل هي في الأطراف الشرقية للقارة الأُورُوبية، فَــإنَّ الدول الأُورُوبية لم تفرّط في ما ترى أنه واجب عليها تجاه أوكرانيا، ولم تتوانَ في إسنادها بكل وسائل الدعم. وترى الدول الأُورُوبية أن أية انتكاسة تتعرض لها أوكرانيا ستؤثر على الأمن الأُورُوبي بشكل عام، ولذلك فَــإنَّ هذه الدول تعتبر مؤازرتها لأوكرانيا مؤازرة وحماية لأمن واستقرار القارة الأُورُوبية ذاتها.

 

ومع أن ما يجمع الدول الأُورُوبية مع بعضها يقتصر على الجغرافيا، فَــإنَّ غيرها من الروابط متباعدة جِـدًّا مقارنة بالدول العربية. فاللغة مثلًا مختلفة: فالألماني لا يمكنه التحدث بشكل مباشر مع الإيطالي ويحتاج إلى مترجم، وكذلك الألماني لا يمكنه التحدث مع الفرنسي مباشرة ويحتاج إلى مترجم، وذات الأمر ينطبق على البريطاني الذي لا يمكنه التحدث مع الفرنسي أَو الألماني أَو الإيطالي وغيرهم من دون مترجمين. فجميعهم لغاتهم مختلفة، وإن اجتمعوا وتحدث كُـلّ منهم بلغته، فكأننا في غابة مليئة بأنواع متعددة من الطيور، لكل منها صوت مختلف.

 

ورغم كُـلّ ذلك تجاوزت الدول الأُورُوبية مشكلة اللغة بوصفها وسيلة مهمة للتفاهم بين شعوبها، وتمكّنوا من التكتل سياسيًّا (الاتّحاد الأُورُوبي)، واقتصاديًّا (السوق الأُورُوبية المشتركة)، وعسكريًّا (حلف الناتو).

 

ولا يقف الأمر عند اختلاف اللغة بين شعوب الدول الأُورُوبية، بل تختلف أَيْـضًا أنظمتها الحاكمة: ففي بريطانيا نظام الحكم ملكي، وفي فرنسا وغيرها جمهوري. ومع ذلك لم يُثر اختلاف أنظمة الحكم أية حساسيات سياسية تصل إلى حَــدّ تآمر كُـلّ نظام على الآخر، كما هو حال الأنظمة العربية، بل لقد تجاوزوا كُـلّ تلك الاختلافات وتوحّدوا في سبيل الحفاظ على أمن دولهم وقارتهم.

 

ولولا التهديد الروسي النووي للدول الأُورُوبية لَما تردّدت هذه الدول لحظة في التدخل العسكري المباشر إلى جانب أوكرانيا. لكن ما منعها من ذلك هو الخطر النووي الذي يمكن أن يصيب القارة الأُورُوبية بأسرها، ومع ذلك لم يتوقفوا عن الدعم والإسناد بطرق ووسائل متعددة.

 

ولقد استخدموا المحكمة الجنائية الدولية كأدَاة لملاحقة بوتين بوصفه مرتكِبًا لفعل من أفعال الإبادة الجماعية لسكان أوكرانيا. وهذا الفعل هو ما نُسب إليه من نقل عدد من الأطفال الأوكرانيين من أسرهم وتوزيعهم على أسر روسية لتبنيهم. وبسبب ذلك سارعت المحكمة الجنائية الدولية إلى إصدار مذكرة اعتقال بحق الرئيس بوتين. وقد أثارت هذا الأمر أَيْـضًا زوجة الرئيس الأمريكي ترامب في مطالبتها ومتابعتها لقضية الأطفال المثارة ضد الرئيس الروسي، وذلك بمناسبة عقد قمة ألاسكا بين الرئيسين.

 

والمُحزن هو حال أمتنا العربية: أُمَّـة اللغة الواحدة، والجغرافيا الواحدة، والدين الواحد، والتاريخ الواحد، والمصير الواحد. وإن كان عدو الأُمَّــة يقدمه على شكل أقساط، فَــإنَّه بالنتيجة مصير واحد ولن يختلف أبدًا.

ففلسطين قلب الأُمَّــة العربية، وليست مثل أوكرانيا في أطراف القارة الأُورُوبية، لكن العرب لم يكتفوا بترك فلسطين، بل لقد تآمرت عليها أغلب الأنظمة العربية، رغم كُـلّ الروابط والمشتركات. وكما أسلفنا: لم يترك الغرب أوكرانيا، بل آزرها وساندها رغم كُـلّ الاختلافات، وتصاعدت المواقف المساندة إلى حضور عدد من رؤساء دول وحكومات أُورُوبا في وقت متزامن للضغط على الرئيس الأمريكي ومنعه من بيع أوكرانيا في صفقة لحسابه مع روسيا.

أما فلسطين العربية، فـلم تكتفِ الأنظمةُ العربيةُ ببيعها بلا ثمن، بل لقد منحت مغتصِبَها ترليونات الدولارات، وسدّدت من أموال العرب تكاليفَ تدمير غزة وإبادة سكانها، وهو ما لم يسبِقْ لأية أُمَّـة من الأمم فعلُه.