مواجهة شبكات التجسُّس في اليمن.. من ردّ الفعل إلى الاستباقية

البيضاء نت | مقالات 

بقلم / فهد شاكر أبوراس

 

لطالما شكّل الكشف عن الشبكات التجسسية في اليمن صورةً قاتمةً عن واقع الهشاشة الأمنية إبّان سلطات أنظمة ما قبل ثورة الواحد والعشرين من سبتمبر المجيدة، لكنه في حقيقة الأمر أضاء شمعةً في عتمة هذا النفق، مبرزًا نقطة تحول تاريخية تفرض الانتقال من منطق ردود الفعل إلى استراتيجية استباقية متكاملة.

لقد أصبح من الواضح جِـدًّا أن السيادة الوطنية لم تعد تُحمى بالجنود والأسلحة التقليدية وحدها، بل بعقول استخباراتية تستشرف المستقبل وتفكك التهديدات قبل تشكّلها، في مواجهة حرب الجيل الرابع التي تمتزج فيها الحدود بين العسكري والمدني، المادي والافتراضي، العلني والسري.

وهذه الحرب التجسسية المعقدة التي تستهدف اليمن في بنيته التحتية الحيوية ونسيجه الاجتماعي، لم تعد تخوضها أجهزة استخبارات تقليدية، بل تحالفات معقدة تجسدت في شبكات تجسسية كبرى تعمل لصالح الاستخبارات الأمريكية والموساد الإسرائيلي، متغلغلة داخل المنظمات الأممية والدولية العاملة في البلاد.

كما كشفت الأجهزة الأمنية اليمنية مؤخّرًا عن شبكات تستخدم أفرادًا يحملون صفات رسمية أَو يعملون كمستشارين وخبراء ضمن منظمات إغاثية وتنموية لتنفيذ أجندات استخباراتية تشمل جمع المعلومات عن القدرات العسكرية والبنية التحتية الحيوية، وإثارة القلاقل الاجتماعية، وتنفيذ عمليات اختراق سيبراني.

وهذا يستدعي تحولًا استراتيجيًّا شاملًا يعيد هندسة مفهوم السيادة في مواجهة هذه التحديات، تحولًا لا ينفصل عن التحول في طبيعة التهديدات التي يواجهها اليمن.

والانتقال من الدفاع إلى الاستباقية يشكّل الركيزة الأولى لهذا التحول، وبناء نظام الإنذار الاستخباراتي المبكر لم يعد ترفًا فكريًّا، بل ضرورةً وجودية.

لقد أدركت التجربة اليمنية في المواجهة الأمنية هذه الحقيقة، فطوّر اليمن قدراته التحليلية الاستباقية، واعتمد على تحليل السيناريوهات المستقبلية ونمذجة التهديدات المحتملة، مما مكّنه من تحقيق مستوى غير مسبوق من الفعالية في تحديد وتحجيم التهديدات الأمنية، وتم تطوير نظام إنذار مبكر يعتمد على تحليل المؤشرات والدلائل الاستخباراتية في مراحلها الأولى.

وهذا يتجلى عمليًّا عبر إنشاء المركز الوطني للعمليات السيبرانية، الذي يحمي الفضاء الإلكتروني اليمني من الاختراق، خَاصَّة في ظل تحول أجهزة الاستخبارات الدولية إلى الاعتماد على التطبيقات الإلكترونية لتجنيد عملاء محليين.

كما أن تعزيز الرقابة الاستباقية على المنظمات الدولية شكّل درعًا وقائيًّا، فالحرب على اليمن أخذت منحى أشد خطورة يتمثل في الحرب الأمنية والاستخباراتية التي تُدار بهدوء ودهاء عبر أدوات ناعمة تتخفّى خلف شعارات إنسانية، حَيثُ يتم استخدام غطاء المنظمات الدولية والإنسانية كأحد منهجيات العمل الاستخباراتي المعادي المتطورة.

وهذا يتطلب تصميم آليات المراقبة الذكية التي لا تعيق العمل الإنساني الشرعي لتلك المنظمات، لكنها تحول دون استخدامها كغطاء لأنشطة تجسسية، وكذلك تحليل أنماط التمويل وحركة العاملين والوصول إلى المناطق الحساسة.

إن تعميق الفهم الاستخباراتي للعدو يمثل الركيزة الثانية للتحول الاستراتيجي، فالانتقال من الردع التكتيكي إلى التفكيك الاستراتيجي يتطلب فهمًا أعمق لمراكز الثقل في شبكات التجسس التابعة للعدو.

لقد كشفت الاعترافات الموسعة لخلية التجسس الأمريكية – الإسرائيلية عن كيفية استهداف العملية التعليمية في اليمن منذ أربعين عامًا عبر جهات متعددة شملت «الشراكة العالمية» و«الوكالة الأمريكية للتنمية» و«المنظمة الألمانيةGIZ» و«الاتّحاد الأُورُوبي»، في محاولة للعبث بمخرجات التعليم وإفراغه من محتواه.

وهذا يؤكّـد أن مراكز الثقل ليست عسكرية فحسب، بل تشمل البنى الفكرية والاجتماعية والاقتصادية.

لذلك فَــإنَّ عملية بناء الملفات الاستخباراتية الشاملة عن العناصر الفاعلة المعادية تشمل تحليل السجل السلوكي والروابط المالية والشبكات الاجتماعية، وهو ما تطوّر في التجربة الأمنية اليمنية التي اعتمدت على تحليل البيانات الضخمة وتحليل الشبكات الاجتماعية والتحليل الإلكتروني المتقدم.

كما أن استخلاص الدروس من المواجهات السابقة يشكّل ذاكرة تنظيمية للمنظومة الأمنية، فالحرب السيبرانية أصبحت أحد أبرز أدوات الاختراق الناعم، حَيثُ تعمل وكالات الاستخبارات الدولية على تعزيز قدراتها في التطفل على المعلومات الخَاصَّة باستخدام الذكاء الاصطناعي.

أما تدويل المعركة الاستخباراتية فشكّل الركيزة الثالثة لهذا التحول، فالانتقال من العزلة الدفاعية إلى التحالف الهجومي استلزم إدراكًا بأن المعركة لم تعد محلية الطابع.

كما أن توثيق الانتهاكات وتقديمها للمحافل الدولية أصبح سلاحًا استراتيجيًّا، وكشف الأجهزة الأمنية اليمنية عن شبكات تجسس كبرى تعمل لصالح الاستخبارات الأمريكية والموساد الإسرائيلي يمثل رسالةً للدول الكبرى بأن اليمن بات يمتلك منظومة أمنية قادرة على التصدي لأعتى أجهزة التجسس.

وهذا يعرّي ازدواجية المعايير الأممية في تعاملها مع قضايا السيادة الوطنية.

وكذلك فَــإنَّ بناء التحالفات الاستخباراتية الإقليمية الانتقائية شكّل عاملًا مضاعفًا للقوة؛ لأَنَّ تبادل المعلومات حول شبكات التجسس والأساليب العدائية يعمّق المصلحة المشتركة في الأمن والاستقرار.

وقد أثبتت التجربة اليمنية قدرةً استثنائية على التكيّف مع المتغيرات السريعة في بيئة التهديدات، متجاوزةً بذلك إمْكَانيات كثير من الدول التي تمتلك قدرات مادية وتقنية أكبر بكثير.

وتأتي الركيزة الرابعة في بناء رأس المال البشري، فالاستثمار في الإنسان شكّل أقوى نظام استخباري لا يمكن اختراقه.

ولقد أثبتت التجربة اليمنية أن السر في نجاح المواجهة الأمنية يعود إلى الفهم العميق لطبيعة الحرب غير المتماثلة، حَيثُ تم تحويل نقاط الضعف المحتملة إلى نقاط قوة فعلية من خلال الاعتماد على العقول اليمنية المبدعة التي استطاعت تطوير حلول محلية للتحديات التقنية المعقدة.

كما أن تحفيز الكفاءات الوطنية في الداخل والخارج شكّل رافعةً حقيقية، فالقدرات اليمنية أثبتت تميزًا في تطوير أنظمة متقدمة لكشف الأنماط غير الطبيعية في التحويلات المالية وحركة الأموال المشبوهة والعمليات المالية غير المبرّرة والشبكات المالية الخفية.

أما ترسيخ ثقافة الأمن الوطني في المجتمع فكمّل هذه الحلقة، وعمل على تحويل كُـلّ مواطن يمني إلى حارس للوطن، وهذا يشكّل شبكة إنذار مبكر لا يمكن اختراقها، خَاصَّة في مواجهة الحرب الناعمة التي تستهدف العقول والقلوب قبل الأرض والحدود.

إن هذا التحول الاستراتيجي في البنية الاستخباراتية اليمنية هو رحلة بناء وليست عملية آنية، تطلبت إرادَة سياسية ثابتة واستثمارا ممنهجًا في القدرات وتوجّـها استباقيًّا نقل اليمن من الدفاع إلى المبادرة.

لقد أصبحت التجربة اليمنية في المواجهة الأمنية مرجعًا استراتيجيًّا في مواجهة شبكات التجسس المعقدة، حَيثُ تمكّنت الأجهزة الأمنية من تفكيك شبكات تجسسية تعمل بتقنيات بالغة التعقيد.

وهذا النجاح لم يكن ممكنًا بدون تطوير قدرات استخباراتية غير مسبوقة، تجسدت في إنشاء منظومة متكاملة اعتمدت على تحليل البيانات الضخمة وتحليل الشبكات الاجتماعية والتحليل الإلكتروني المتقدم والرصد الإلكتروني المُستمرّ على مدار الساعة.

إن هذا التحول الاستراتيجي هو الذي مكّن اليمن من تحويل التحديات إلى فرص لتعميق سيادة الدولة واستقلال قرارها الوطني، في مواجهة حرب تجسسية معقدة تستهدف الوجود قبل الجغرافيا، والعقل قبل الأرض، والإرادَة قبل الحدود.

فالاستخبارات الفاعلة هي العين الساهرة التي تحمي الإنجازات، وتصون المكاسب، وتضمن الاستقرار، وهي الاستثمار الحقيقي في حاضر الأُمَّــة ومستقبلها.