طوفان الشهادة.. حين التقت الدماء في نهر المقاومة الواحدة

البيضاء نت | مقالات 

بقلم / عدنان عبدالله الجنيد 

 

الشهادة ميلاد المعنى ووحدة المصير، ليست انطواءَ اسم في سجل الذكرى، بل هي انفتاح معنى، وولادةُ أُمَّـة من رحم العِزّة والكرامة.

فحين يهدي الشهيد دمه الطاهر إلى مذبح القضية، لا يغيب إنسان، بل تخطو أُمَّـة كاملةٌ من عالم القيم إلى عالم الوجود؛ أُمَّـة تقرأ التاريخ بعين الوفاء، وتحلم بمستقبلٍ لا يرتضي الذلّ ثمنًا للبقاء.

وفي “طوفان الأقصى” تجلى سرٌّ إلهيٌّ بديع: حين امتزجت الدماء – فلسطينيةً ولبنانيةً وإيرانيةً ويمنيةً وعراقيةً – صارت نهرًا واحدًا لا تعبره خطوبُ الفرقة، وعهدًا لا تنقضه أيدي التفريق.

إن الشهادة، قبل أن تكون فعلًا جسديًّا، هي ثقافةُ وعيٍ ترفض الانكسار، وتؤسّس لفقهٍ جديدٍ يميّز بين خطر الاختلاف في اللهجة، وخطر المشاريع التفتيتية التي تستهدف وَحدة الأُمَّــة.

وما لم نجعل من الشهادة منهجًا تربويًّا ينفذ إلى الأعماق، ستبقى دماءُ الشهداء صرخةً في وادٍ من الصمت.

ولأن كُـلّ بناءٍ بغير أَسَاس محتومٌ بالاهتدام، فَــإنَّ المرجعية القرآنية هي الحبل الممدود بين السماء والأرض:

﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جميعًا وَلَا تَفَرَّقُوا﴾ [آل عمران: 103].

فالشهادة في ضوء هذا الكتاب لا تتحوّل إلى فعلٍ انتحاري، بل إلى فعلٍ توحيديٍّ يحقّق النصر في المعقل الأول: قلب الأُمَّــة وعقلها.

الشهادة نصر: الانتصار بقانون المعنى

ليست الشهادة هروبًا من الحياة، بل غوصًا في أعماقها.

إنها تستبدل حسابَ الساعات بحسابِ الآثار، وتزخرف الدنيا برضوان السماء.

وقوله تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169]، هو تثبيتٌ لقانونٍ إلهي: أن الذين يبذلون أنفسهم هم أصحاب الحياة الحقيقية التي تنتشر كالنور.

استراتيجيًّا، لكل قذيفةٍ ماديةٍ قذيفةٌ معنويةٌ تقابلها.

والشهادة هي أقوى سلاحٍ لكسر إرادَة العدوّ، وبناء مناعة الأُمَّــة.

فحين يتحوّل الشهيد إلى أُسطورةٍ في الوعي الجماعي، يصبح الحصارُ والتهديدُ أدوات واهيةً أمام إرادَة تعلم أن الموت في سبيل العِزّة هو الحياةُ بأجمل صورها.

الشهادة حياة: فلسفة الخلود وسرّ البقاء

ليست الشهادة فنًّا، بل تحولٌ نوعي: من وجودٍ زمانيٍّ محدود، إلى وجودٍ في ضمير الأُمَّــة وذاكرة التاريخ.

الحياة الحقيقية ليست طولَ الأيّام، بل عمقَ الأثر.

والشهيد قد عاش ألف حياةٍ في لحظةٍ واحدة؛ لأَنَّه وجّه قصةَ وجوده نحو الخلود.

ومن هنا، يتحوّل اسم الشهيد إلى منهجٍ دراسي، وتضحياتُه إلى نصٍّ يُشرح عليه مفهومُ الإيثار والعِزّة.

فالتاريخ بأسره لم يكتبه إلا أقلامُ الشهداء، وكل انتصار لم يُرسم إلا بمِداد دمائهم.

الشهادة وحدة: جسر الدماء وميثاق القلوب

لقد كان امتزاجُ الدماء على أرض الغزاة درسًا أعظم من كُـلّ خطبة.

فحين يلتقي الدمُ الفلسطينيُّ باللبنانيِّ، والعراقيُّ باليمنيِّ، والإيرانيُّ بالسوريِّ، في رحاب الأرض المقدسة، تسقط جدرانُ التقسيم الوهمية.

الشهادة ترفض أن تكون حِصّةً لطائفةٍ أَو فئة.

إنها قيمٌ تتجاوز الحدود، لتبني وعيًا جماعيًّا للأُمَّـة.

وهذه الثقافة – ثقافة توحيد الصف – ليست مُجَـرّد شعار، بل هي تطهيرٌ للنفس من أدناس التعصب، وبناءٌ لعقلية الجماعة التي تلتقي على “كلمةٍ سواء”.

الشهادة مقاومة: مواجهة استكبار العالم بإرادَة الحر

في زمن الفترات الكبرى، حَيثُ تتحول الحروب إلى معركة إرادات، تكون ثقافةُ الشهادة هي السلاح الاستراتيجي لصنع “الإنسان المقاوم”.

إنها ترفض أن تكون الأُمَّــة مستهلكةً لقيم الغالب، فتؤسّس لمنظومة قيمٍ تستقي من عذوبة الإيمان، لا من أفكار المستعمر.

هذه الثقافة ليست هروبًا من الواقع، بل غورٌ في أعماق الذات لبناء أُمَّـة لا ترضى الضيم، وتحويلها من متلقٍّ لضربات العدوّ، إلى فاعلٍ رئيسيٍّ في معادلة المقاومة.

بناء الثقافة: من النظرية إلى الممارسة

لتحويل فلسفة الشهادة إلى واقعٍ حيّ، لا بد من:

التأصيل القرآني: جعل القرآن مرجعًا لفهم الشهادة كحياةٍ أبديةٍ وعِزّةٍ سرمدية، كي لا تتحوّل إلى فعلٍ انتحاري أَو عنفٍ أعمى، بل إلى وعيٍ ربانيٍّ يبني الأُمَّــة على أسس الإيمان والبصيرة.

القيادة الحكيمة: قيادةٌ تفهم أن الشهادة مشروعُ بناءٍ لا مشروعُ تدمير؛ تستثمر النفوس، وتحوّل التضحية إلى قوةٍ بنائيةٍ تنمّي المؤسّسات، وترشد الفكر، وتحمي المجتمع من التفتيت والغلو.

الذاكرة الجماعية: توثيقُ التضحية وتكريمُ الشهداء بشكلٍ يوحّد الوجدان، وينقل الدروس إلى الأجيال، من خلال موارد تاريخية، ومتاحف، ونصوص، ومناهج تعليمية تبقي الإرثَ حيًّا ومؤثّرًا.

تمييز المقاومة: بيانُ حدود المرجعية الأخلاقية في المقاومة، وفصلُها عن العنف الذي يفتقر إلى الحجّـة والقيم؛ تشييدُ فكرٍ يحمي القيم، ويرسّخ الضوابط الشرعية والإنسانية في مجال الصراع.

رعاية الأسر والبنية الاجتماعية: تأمينُ حياةٍ كريمةٍ لأهل الشهداء ماديًّا ومعنويًّا، بما يثبت مبدأَ الوفاء، ويحافظ على تمسّك الأجيال بقيم التضحية، ويقوّي مؤسّسات الرعاية والتضامن.

خاتمة: عهدٌ لا ينكسر

الشهادة ليست صرخةً في ليلٍ بَدَوِيّ، بل هي نبضُ حياةٍ جديدةٍ لأمةٍ تشتقّ طريقها بين أمواج التحديات.

هي الميزان الذي تُوزَن به الشعوب قيمُها، والمرآة التي تُري الأمم حقيقةَ نفسها.

فلنجعل من دماء الشهداء مشعلًا للهُدى، لا شعلةً للانتقام.

ولنحفظ وحدتَنا كما حفظوا كرامتَنا.

وعلى هذا النهج، نعتصم بحبل الله جميعًا، فيأتي النصر، وتتوفّق الرؤى، وتثبت الأُمَّــة على أسس العِزّة والكرامة.

سلامٌ على من صنعوا من الدماء سفرًا، وسلامٌ على من جعلوا من التضحية مدرسة، وسلامٌ على من ربطوا القلوب على وحدة المصير.