تشهد اليمن حراكًا لافتًا في الأشهر الأخيرة، يتجلى في سلسلة من الوقفات القبلية المسلحة التي تمتد من صعدة إلى الحديدة مرورًا بذمار وعمران وصنعاء. هذه الوقفات ليست مجرد تعبير مجتمعي؛ بل تحمل دلالات سياسية وعسكرية تشير إلى حالة متقدمة من الاستعداد لأي مستوى من التصعيد العدواني مهما كان صغيرا أو كبيرا، في ظل قراءة تعتبر أنّ البيئة الإقليمية والدولية تتجه نحو مزيد من الضغط على اليمن، وخصوصًا بعد تشكّل التحالفات البحرية الجديدة بقيادة واشنطن.
الاستعدادات الجارية والتحركات متعددة المستويات على الجبهة اليمنية تقول إن اليمنيين يتحركون بثقة تستند إلى مجموعة من العوامل التي يرون أنها منحتهم قدرة على مواجهة خصوم يفوقونهم عتادًا وعددًا، سواء في البحر الأحمر أو في مسار الدعم المعلن لغزة، وكذلك في أي تصعيد عسكري قادم.

تماسك الجبهة الداخلية: قاعدة الارتكاز الأولى

تعتمد اليمن أولًا على تماسك الجبهة الداخلية بكونها نقطة القوة الأهم. فالقبائل اليمنية مترابطة اجتماعيًا وسياسيًا وإيمانيا، وتعد مصدرًا مهما لقوة اليمن وسرا من اسرار صموده على مدى عقد من العدوان السعودي. هذه القوة المتماسكة شعبيا وتكاملها مع الجهاز الأمني والإداري في المناطق الحرة، هذا التماسك لا يعكس فقط دعمًا قبليًا؛ بل يخلق حالة من الاستقرار النسبي تمنح الحكومة والقيادة السياسية والعسكرية مجالًا واسعًا لإدارة الصراع الخارجي دون اهتزازات داخلية كبيرة. وكلما ارتفع مستوى التهديد الخارجي، زاد مستوى الوعي والجاهزية، والتي تعكسها مظاهر التعبئة في الداخل، بدءًا من الخطاب الديني والسياسي، وصولًا إلى الفعاليات القبلية المسلحة ذات الرسائل السياسية المكثفة، كما هو حاصل هذه الأيام.

خبرة قتالية ممتدة ودروس مرحلة إسناد غزة

يرى الخبراء أن التجربة العسكرية اليمنية سواء خلال مرحلة العدوان السعودي الأمريكي، أو في المرحلة التي قدمت فيها دعمًا عسكريًا وسياسيًا وإعلاميًا للمقاومة الفلسطينية في غزة، علاوة على أنها شكلت نقطة تحوّل في مسار القدرات العسكرية اليمنية، سواء على مستوى التكتيكات أو تطوير الأسلحة، فإنها أكسبت اليمن خبرة عسكرية كبيرة، لم تكن تحلم بها مهما كانت التدريبات والاستعدادات والدعم. وتتميز هذه الخبرات بأنها محلية بشكل كلي، خبرة بشرية وقدرات عسكرية وتسليحية وتصنيع وتطوير، بقدرات ذاتية.
ومن مظاهر هذا التطور استخدام صواريخ باليستية جديدة محلية الصنع (بعضها فرط صوتي، وكذلك متعدد الرؤوس)، وهي تقنيات يؤكد السيد عبدالملك الحوثي في آخر خطاباته على أن اليمن تتقدم فيها على كل الدول العربية بدون استثناء. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد استفادت القوات المسلحة اليمنية من تجربة “المعركة البعيدة” في البحر الأحمر وباب المندب لضرب أهداف على مسافات طويلة، أطلقت فيها طائرات مسيرة تجاوزت طبقات متعددة من الدفاعات، ووصلت -وفقا لتقارير موثقة- إلى مواقع حساسة في “تل أبيب” و”إيلات” ومطار “بن غوريون”، وأبرز ما نتج عنها تعطيلُ الملاحة البحرية الصهيونية في البحر الأحمر، وإغلاق ميناء “إيلات”، وكذلك تعطيل الملاحة الجوية وإجبار المستوطنين على الدخول للملاجئ بوتيرة متكررة.

مواجهة غير تقليدية مع القوات البحرية الدولية

من أبرز عناصر القوة التي يستند إليها اليمن في خطابه الخبرةُ في التعامل مع حاملات الطائرات والسفن الحربية الغربية، حيث شهد البحر الأحمر خلال العامين الأخيرين سلسلة من المواجهات العسكرية، استخدمت فيها صواريخ باليستية لأول مرة ضد سفن حربية وغيرها في منطقة عمليات نشطة، كانت المعركةَ البحرية الأشد، حسب وصف تقارير أمريكية لتلك المواجهة، وبأنها من أعقد وأقسى العمليات التي خاضتها البحرية الأمريكية منذ عقود. ما يعكس طبيعة التحدي الذي واجهته القطع البحرية مع انتشار الطائرات المسيّرة والصواريخ بعيدة المدى.

العقيدة والإيمان البعد الذي يتجاوز السلاح

جانب لا يمكن تجاهله في فهم استعداد اليمن، هو البعد الايماني، والثقة الكبيرة بوعد الله تعالى “ولينصرن الله من ينصره”، فالمعركة مع هذا العدو ليست معركة أو صراعا عسكريا معزول الأبعاد، بل هو لصيق بالبعد الديني، ولذلك يدخل اليمن في صراع غير متكافئ ماديا، ولو لم يكن الإيمان موجودا، واعتمد فقط على الحسابات العسكرية المادية، ربما لم يكن هناك ما يدفع لخوض المواجهة. وبناء عليه يُنظر -في اليمن- إلى الصراع بأنه “صراع وجودي” بين “أمة مظلومة معتدى عليها، وقوى كبرى متعجرفة تعتدي على العرب والمسلمين”، وبحسب هذه الحقائق فإن الله هو مصدر النصر، وليس السلاح، وأن تفوق الخصوم التكنولوجي لا قيمة له ما داموا “معتدين وظالمين”.
هذه الرؤية الإيمانية تخلق عناصر قوة معنوية عالية، تتجلى في عدم إظهار الخوف من التصعيد، والإيمان بأن السلاح محدود لكن “التسديد إلهي مضمون، والاستعداد للتضحيات مهما كانت، فهي بعين الله تعالى. وبهذا يكون الاطمئنان لنتائج المعركة -مهما كان حجم الخصم- مغروسا في الوجدان، ومنصوبا أمام العين والقلب.
هذه العقيدة الإيمانية الواعية تمتلك أثرًا تعبويًا ضخمًا يجعل الشعب اليمني أكثر قدرة على تحمل الضغوط والحصار والإجهاد العسكري.

في المحصلة، يجد اليمن نفسه أمام مرحلة حساسة تتقاطع فيها التجربة القتالية المتراكمة مع تماسك الجبهة الداخلية وصعود العقيدة الايمانية التي تمنحها ثقة عالية في مواجهة الضغوط. وبينما تصعّد واشنطن من استهداف اليمن أمنيا، واقتصاديا، وعسكريا، يرفع اليمنيون مستوى استعدادهم على قاعدة أن الدفاع القوي هو أفضل وسيلة لردع العدو. فالاستعداد للحرب يمنع الحرب كما يقال، وكلما ارتفع منسوب الجاهزية، تقلص هامش المغامرة لدى الطرف الآخر. وهكذا يتحول الاستعداد نفسه إلى أداة ردع.