الإنسان.. بين كرامة الخِلافة ومسؤولية نصرة المظلوم

البيضاء نت | مقالات 

بقلم / بشير ربيع الصانع 

 

كرم الله الإنسان على سائر المخلوقات بالعقل والحواس والإدراك، ومنحه القدرة على التمييز وتحمّل المسؤولية؛ فكان الإنسانُ منذ اللحظة الأولى مخلوقًا ذا رسالة، لا جسدًا يتحَرَّكُ ولا عقلًا فارغًا من المعنى.. ولأجل هذه الكرامة قال الله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا}، فأحلّه مقام الفكرة الرفيعة، وجعله قادرًا على حمل أمانة أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها.

تلك الأمانة هي عمارة الأرض بالعدل، وصيانة الحق، والدفاع عن المظلوم، وبناء مجتمعٍ يقوم على القيم قبل المصالح، وعلى الإيمان قبل الغرائز.

ومن تمام فضله سبحانه أن جعله خليفتَه في الأرض، يقيم القسط ويصدّ الفساد، ويكون شاهدًا على الأمم الأُخرى بمواقفه ومبادئه.

فمهمة الإنسان هي مسؤولية ممتدة على امتداد الحياة، ولذلك جُعلت النبوات مدارس لتربية هذا الإنسان، وتصفية روحه، وتقوية ضميره، ليكون نموذجًا عاليًا في سلوكه ومواقفه.

قال تعالى: {لَقَدْ أرسلنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْـمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَـمَ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ}، وهذه وحدها تجعل من الإنسان ركيزة العدالة، لا متفرجًا على الظلم، ولا ساكتًا أمام الجور.

ومن سار على نهج الله ورسله رأى أن التكليف موقف حيّ يترجم روح الإيمان إلى أرض الواقع.

فالمستنير بهدي القرآن يجد نفسه بطبيعة قلبه نصيرًا للحق، واقفًا مع المظلوم، رافضًا للطغيان، مدافعًا عن الإنسان حيثما كان.

وهكذا عاش الأنبياء وهكذا ربّوا أتباعهم، وهكذا يجب أن تكون الأمم التي تحمل رسالتهم.

ومن زاغ عن هذا الطريق ضاقت رؤيته حتى ظن أن حياته محصورة بين ذاته وشهواته، فانحرف عن المعنى الحقيقي للخلافة، وأهدر ما كرّمه الله به من عقلٍ وضمير.

وعندما ينهض الإنسان بمسؤوليته تجاه أمته ودينه يصبح المجتمع جسدًا واحدًا، متماسكًا، محصّنًا، غنيًّا بالوعي والرحمة.

المجتمع الذي يشعر كُـلّ فرد فيه بأنه جزء من قصة كبيرة لا يمكن أن يسقط، ولا يمكن أن يُهزم روحيًّا حتى لو ضاقت به الحياة.

وفي المقابل، المجتمع الذي يغلق بابه على مصالحه الضيقة ويتعامى عن آلام الآخرين يتحول إلى جسد بلا روح، وإلى كيان ميت مهما بدا مظهره قويًّا.

لأن فقدان الإحساس بالمسؤولية يقتل معنى الإنسانية، ويجعل الإنسان عبئًا على الأُمَّــة بدل أن يكون سندًا لها.

وليس هناك مثال أقرب وأصدق لهذا الوعي من القضية الفلسطينية، قضية المظلوم الذي يصرخ منذ عقود، وقضية الأُمَّــة التي يُمتحن فيها ضمير كُـلّ إنسان.

فالإنسان الحق لا يمكن أن يرى الظلم ولا يتحَرّك، ولا يمكن أن يشاهد الاحتلال ولا يغضب، لأن قيمة الإنسان تُختبر حين يواجه الواقع، لا حين يتغنى بالمبادئ في الفراغ.

فلسطين اليوم هي ميزان يقيس صدق الأُمَّــة بأفعالها، ويكشف من الذي أدرك معنى الخلافة والكرامة، ومن الذي اختار طريق اللامبالاة.

إن الوقوف مع الشعب الفلسطيني هو امتداد طبيعي لمعنى الاستخلاف الإلهي: نصرة المظلوم، الدفاع عن القضية، مقاومة الاحتلال، وإحياء الضمير في زمنٍ تسلّط فيه الباطل.

والمواقف المشرفة التي تبرز من الشعوب الحرة ومن الأفراد الصادقين هي انعكاس لروح القرآن في النفوس؛ إنها ترجمة عملية لقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ}.

فهذه الآية أمرًا حيًّا يذكّر كُـلّ إنسان بأن مسؤوليته لا تقف عند حدود بيته، بل تمتد إلى، حَيثُ يصرخ المظلوم.

المجتمع الواعي يعتبر القضية الفلسطينية واجبًا أخلاقيًّا وروحيًّا؛ لأَنَّ الأُمَّــةَ التي تغضُّ الطرفَ عن ظلم بهذا الحجم أُمَّـة تفقد جزءًا من هويتها.

بينما الأُمَّــة التي تلتف حول قضيتها المركزية تُعيد لنفسها قوتها، وتشفى من ضعفها الداخلي، وتتنفس من جديد.

والأمم الحية هي تعلو بقوة السلاح وتعلو بقوة الموقف، وشهامة اليد الممدودة، وصوت الحق الذي لا يخاف.

المنهجُ الإلهي حين يملأُ القلوبَ يجعلُها قادرةً على حمل هذه القضايا وتحويلها من مُجَـرّد كلام إلى عمل، ومن تعاطفٍ إلى موقفٍ ثابت.

الأُمَّــة التي تتمسك بهذا المنهج لا يمكن أن تُهزم لأنها تحمل من نور الحق ما يكفي لإنارة العالم، بينما التخلي عنه يتركُها منحطّة الرؤية، عاجزة، وتائهة في مطامع صغيرة لا تبني أُمَّـة ولا تصنع مجدًا.

وهكذا نجد أن كرامة الإنسان، وخلافته في الأرض، ورسالة الأنبياء، كلها تتجسد اليوم في موقف واحد واضح: أن تقف مع الحق حيثما كان، وأن تكون سندًا للمظلوم، وأن تحمل في داخلك رسالة العدل التي كلفك الله بها.

وما القضية الفلسطينية إلا امتحان مفتوح يميّز بين من فهم دوره ومن نسي نفسه، بين من حافظ على كرامة الإنسان وبين من باعها بثمنٍ بخس.

وفي الحقيقة، الإنسان الذي يترجم إيمانه إلى مسؤولية يصبح نورًا في زمن الظلمة، وصوتًا للحق في زمن القهر، ولبنةً في بناء مجتمعٍ لا يعيش لنفسه بل لأمته.

هذا هو الإنسان الذي أراد الله أن يرفعه، وأن يكرمه، وأن يجعله خليفةً في الأرض.