صنعاء قِبلة قرارها الذي لا يُقايَض ولا يُشترَى
البيضاء نت | مقالات
بقلم / أحمد الضبيبي
لم تكد رياح التفاؤل الحذر تهب على المنطقة بفعل تقارب الرياض وطهران، حتى ارتفعت أصوات لتضع النقاط على حروف الحقيقة الناصعة التي طالما غيَّبتها أوهامُ الذهنية السعوديّة المتعجرفة المتعنتة.
إن سعي المملكة الحثيث لتنفيذ تقارُبٍ مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية، يأتي اليوم ليسدل الستار على حقبة من التخبط السياسي والهدر المالي المروع، الذي كان وقوده الأَسَاسي شيطنة طرف وتدمير آخر.
فقد أنفقت السعوديّة خزائن المليارات لا لتبنى صروح التنمية، بل لتشييد أُسطورة الوحش الطائفي الذي يتهدّد المنطقة، ويُصوَّر في الإعلام السعوديّ كشبح فارسي مجوسي يستهدف الهُوية العربية السُّنيّة.
وفي مفارقةٍ ساخرةٍ تندر في أدبيات السياسة، كانت هذه الأُسطورةُ المنسوجة هي ذاتها الذريعة التي سُيقت بها الجيوش والمال إلى اليمن، ليسفكوا الدماء تحت دعوى محاربة الإيرانيين الشيعة، وهو الادِّعاء نفسه الذي برّر تمويل آلة القتل والإرهاب في سوريا، وقمع الحريات في البحرين، وتدمير الاقتصاد اللبناني؛ بهَدفِ تطويق حزب الله.
ثم فجأة، وكما لو أن التاريخ يعيد نفسه في مشهد عبثي لا يليق بدولة تسعى للزعامة، تتوجّـه الرياض نحو طهران بابتسامة صفراء لتوقيع اتّفاقيات الأُخوّة.
هذا التحولُ الدراماتيكي المهين يكشف عن هوة سحيقة تفصل الذهنية السعوديّة عن قراءة طبائع الأمور واستيعاب متغيرات الميدان.
إن هذا الغباء المتراكم، طبقًا عن طبق، هو من النوع النادر، الميؤوس من علاجه في المدى المنظور.
هو ذاك العقل المقلوب الذي يطلق الدعاية ويصدقها في آن واحد، وكأنه كرة سلة صغيرة ترتد دعاياتها الكاذبة من جدران الواقع لتصيب مطلقها، الذي يمتلك ذاكرة ذبابة تنسيه أصل الحكاية وزيفها.
فالرياض، المأخوذة بأوهامها، تتصور أن تفاهماتها مع طهران هي المفتاح السحري لغلق مِلف اليمن.
هنا، يكمن جوهر الوهم الأكبر؛ فالقرار اليمني حصن منيع، وصنعاء هي قبلة قراره، وليس طهران، ولا بكين، ولا واشنطن، ولا حتى الرياض.
لقد ترجم هذا الغباء مؤخّرًا في قرار هروب السعوديّة من استحقاقات السلام مع اليمن؛ فبدلًا عن الالتزام الجاد بتنفيذ خارطة الطريق للسلام مع اليمن، لوحظ لجوئها المرتبك إلى بناء تحالفات أمنية وعسكرية ودفاعية تحت ذريعة واهية هي حماية الملاحة البحرية في البحر الأحمر والبحر العربي، وكان آخر فصوله توقيع وثائق مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
إن هذا التعنت المُستمرّ والمراوغة السافرة المدعومة من أمريكا والكيان الغاصب في عرقلة مِلف السلام مع اليمن، بالتوازي مع هذا الارتماء في أحضان تحالفات أمنية ودفاعية هشة، لن يفضي إلا إلى نتيجة واحدة وهي وضع المملكة السعوديّة مباشرة أمام صواريخ اليمن الفتاكة.
هنا تتكشف خيوط المؤامرة الدنيئة؛ فواشنطنُ وتل أبيب تحاولان، بوضوح، استخدام الرياض وأبو ظبي كأدَاة عقاب رخيصة ضد اليمن؛ بسَببِ موقفه القومي والإنساني الثابت مع غزة وفلسطين ومع كُـلّ أحرار الأُمَّــة العربية والإسلامية ضد الكيان الصهيوني والغطرسة الأمريكية في المنطقة.
وهنا ترسل صنعاء التحذيراتِ مرارًا وتكرارًا أنه إذَا أصرت المملكة على تنفيذ المخطّطات الأمريكية والصهيونية بالتحَرّكات والتموضعات في المناطق اليمنية المحتلّة والترتيب لمواصلة العدوان على اليمن أَو في المراوغة المميتة بتنفيذ خارطة الطريق للسلام مع اليمن، فستكون قد جنت على نفسها وعلى المنطقة كارثة تتجاوز كُـلّ التوقعات.
فالشواهد حاضرة ومريرة، كَيان الاحتلال الصهيوني لم يستطع أن يحميَ نفسَه من صواريخ اليمن ومسيراته، والأمريكيون أنفسهم فشلوا في حمايته أَو حتى حماية سفنهم في الممرات المائية، وحينئذٍ، لن ينفعها من شجعها وحاك لها المؤامرة، ولن تجدي نفعًا تلك التحالفات الورقية عندما تشتعل الجبهة من جديد بفعل تهور القرار السعوديّ.
إن تعنُّتَ الرياض في مواصلة التحَرُّكات العدائية وإعادة هيكلة مرتزِقتها في المناطق المحتلّة وعدم تنفيذ بنود خارطة الطريق مع اليمن، وذهابها للتوقيع على اتّفاقات مع إيران، لن يقدم لها شيئًا، ولن يبعدَها عن مرمى الصواريخ اليمنية فوق الصوتية التي أثبتت دقة إصابتها وبعد مداها.
إن الجهلَ السعوديّ المتأصل بطبيعة الصراع يبلغ حَــدّ الإشعاع الضار، عندما يتوهم أن قرار اليمنيين يمكن أن يتخذ خلف جدران العواصم الأُخرى.
والأدهى من ذلك، أن هذا الموقف لا يقتصر على قادة صنعاء أَو محلليها، بل هو حقيقة أقر بها قادة الجمهورية الإسلامية الإيرانية أنفسهم مرارًا وتكرارًا، مؤكّـدين أن القرار اليمني يتخذ في صنعاء وليس في طهران، وهذا الاعتراف الرسمي من طرف تصر الرياض على تصويره كالمحرك والآمر الناهي، يمثل ضربةً قاصمة وإدانة موثقة لهشاشة الموقف السعوديّ وفشل دعاياته.
إن حجيةَ الاتّفاقات تبقى، وفقَ قواعد القانون الطبيعي والدولي، نسبية بين أطرافها، ولصنعاء الحق أن تقيمَ علاقات الصداقة مع من تشاء، وتحرمها على من اختار أن يكون جزءًا من الكيان القذر أَو يقف في صف معاداتها.
وعلى هذا النحو المحكَم، فَــإنَّ قرارَ صنعاء هو حقيقة لا يمكن لأحد في الكون إفهام الرياض إياها بالطرق الطبيعية، بل بالارتطام الحر بالواقع.
فلا الرياض ولا طهران ولا بكين ولا واشنطن، ولا حتى سكان كوكب المريخ، يستطيعون أن يقرأوا عن صنعاء حتى البسملة؛ لأَنَّ صنعاء بفضل الله أندى بالأصالة عن نفسها صوتًا، وأمتن يدًا، وأمضى فعلًا، وأقوم قيلًا، هي السيل الجارف ذاته، لا يضرها إن جهلتها الرياض، ولا يغير من طبائع الأمور بشأنها علم الآخرين.
القرار صنعاني، والحسابات العبثية للرياض ستبقى مُجَـرّد فقاعات وهم تتبخر عند أول صيحة حق من عاصمة الصمود.