الحروب الهجينة.. الصراع الجديد

البيضاء نت | مقالات 

بقلم / ربيع النقيب

 

تشير نظرية الحروب الهجينة إلى نمط معاصر من الصراع تتداخل فيه الأدوات العسكرية التقليدية مع وسائل غير عسكرية، تشمل الاقتصاد، والإعلام، والحرب السيبرانية، والضغط الدبلوماسي، والتأثير الثقافي، وإدارة الإدراك الجماعي.

في هذا النموذج، لا تكونُ الحربُ حدثًا معلنًا بحدود زمنية واضحة، بل عمليةٌ مُستمرّة منخفضة الحدة، تهدف إلى إنهاك الخصم وتفكيك بنيته الداخلية دون الوصول إلى مواجهة شاملة مكلفة.

برز هذا المفهوم في الأدبيات العسكرية الغربية بعد إخفاقات متكرّرة في الحسم العسكري المباشر، خُصُوصًا في البيئات التي تمتلك مجتمعاتها قدرة عالية على الصمود، أَو سرديات مقاومة متجذرة.

وقد دفع ذلك صناع القرار إلى تبني مقاربة تقوم على دمج الأدوات الصُّلبة والناعمة ضمن إطار واحد، تُدار فيه المعركة سياسيًّا وإعلاميًّا واقتصاديًّا بقدر ما تُدار عسكريًّا.

في الحرب الهجينة، لا يكون الهدفُ احتلالَ الأرض بالضرورة، بل تعطيل قدرة المجتمع على اتِّخاذ قرار مستقل.

ويتم ذلك عبر ضربِ الثقة بين المجتمع ومؤسّساته، وتشويه المفاهيم الجامعة، وإغراق الفضاء العام بسرديات متناقضة تُفقد الحقيقة معناها، وتُحوّل الصراع من مواجهة مع خصم خارجي إلى أزمة داخلية متعددة الأبعاد.

الإعلام في هذا السياق يتحول من أدَاة نقل إلى أدَاة توجيه؛ فالرواية لا تعكس الحدث، بل تسبقه وتؤطِّرُه.

يتم استخدام اللغة القانونية والإنسانية بشكل انتقائي لإضفاء شرعية على أفعال محدّدة، ونزعها عن أفعال أُخرى، بما يخدم ميزان القوة القائم.

وقد شكّلت التغطية الغربية للعدوان وحرب الإبادة في غزة مثالًا واضحًا على هذا الاستخدام الوظيفي للسردية، حَيثُ جرى إعادة تعريف العنف، وتطبيع الاستهداف الواسع للمدنيين ضمن إطار أمني مُسيّس.

الاقتصاد يمثل ركيزة أُخرى في الحرب الهجينة؛ فالعقوبات، والحصار، والتحكم بسلاسل الإمدَاد، ليست أدوات ضغط جانبية، بل عناصر مركزية تهدف إلى إضعاف البنية الاجتماعية، وخلق بيئة داخلية قابلة للانقسام.

وغالبًا ما تُقدَّم هذه الإجراءات كبدائل “غير عسكرية”، رغم آثارها الواسعة على الاستقرار الإنساني.

أما الفضاء الرقمي، فقد أصبح ساحة اشتباك قائمة بذاتها.

تُستخدم الخوارزميات، وحملات التأثير المنظم، والذكاء الاصطناعي، في توجيه الرأي العام، وتضخيم سرديات محدّدة، وتهميش أُخرى؛ بما يخلق واقعًا إدراكيًّا موازيًا قد يكون أكثر تأثيرا من الواقع المادي نفسه.

تُظهر تطورات الصراع في البحر الأحمر، في سياق الحرب على غزة، حدود هذه الاستراتيجية الهجينة.

فحين تم ربط الفعل العسكري المحدود بسردية أخلاقية وسياسية واضحة، واجهت القوى الكبرى إشكالية غير متوقعة: تفوق تقني دون تفوق سردي.

هذا الخلل كشف أن السيطرة على المجال العسكري أَو البحري لا تضمن السيطرة على المعنى أَو الشرعية.

تُبرز التجربة اليمنية، في هذا الإطار، فشل الحرب الهجينة عندما تواجه مجتمعًا يمتلك وعيًا جمعيًّا متماسكًا، وقدرة على قراءة أدوات الصراع، وقيادة سياسية ترى المعركة كصراع سيادي طويل الأمد لا كملف تكتيكي.

فعلى الرغم من اختلال ميزان القوة المادية، لم تحقّق أدوات التفكيك الناعمة أهدافها الاستراتيجية.

يمكن القول إن الحروب الهجينة، رغم مرونتها وتعقيدها، تصطدم بعامل يصعب تحييده: الوعي والسردية الذاتية.

فالمجتمعات التي تفهم طبيعة الصراع، وتملك قدرة على حماية فضائها المعرفي، تقلّ قابليتها للاختراق، وتتحول من هدف للحرب الهجينة إلى عنصر مُعطِّل لها.

في ضوء ذلك، يبدو أن مستقبل الصراعات الدولية سيتحدّد بقدرة الفاعلين، دولًا أكانوا أَو حركات، على إدارة معركة المعنى بقدر إدارتهم لمعركة القوة.

فالحسم لم يعد مرتبطًا فقط بالتفوق العسكري، بل بالقدرة على فرض تفسير للواقع يحظى بالقبول والشرعية.

وفي عصر الحروب الهجينة، لم تعد السيادة تُقاس بحدود الجغرافيا وحدها، بل بحدود الوعي.