لماذا تستهدف دولُ الغرب الصهيونية البرنامجَ النووي الإيراني دون غيره؟
البيضاء نت | مقالات
بقلم / إبراهيم يحيى الديلمي
يُعدّ البرنامج النووي الإيراني من أكثر المِلفات حساسيةً في الشرق الأوسط، وقد حظي باهتمام واسع من القوى الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية، وكذلك من كيان العدوّ الصهيوني الذي يعتبره تهديدًا وجوديًّا، مع أنه يمتلك برنامجًا نوويًّا مماثلًا ولم يعترض عليه أحد.
وفي ضوء هذا الاهتمام، يُطرح سؤال جوهري: لماذا تستهدف الصهيونية ودول الغرب البرنامج النووي الإيراني دون غيره وبشكل متكرّر ومنهجي؟ وللإجَابَة على هذا السؤال ينبغي علينا تتبع مسار الحركة الصهيونية من بدايته وحتى يومنا هذا.
الصهيونية.. من فكرة دينية إلى مشروع استعماري:
الصهيونية ليست مُجَـرّد حركة سياسية حديثة، بل هي ظاهرة تاريخية ذات جذور دينية عميقة، تأسست في أُورُوبا الشرقية والغربية عام 1892م، وسط موجات معادَاة السامية والفقر والانغلاق الاجتماعي الذي عانى منه اليهود، خَاصَّةً في روسيا القيصرية، ثم تطورت عبر العصور لتتحول إلى مشروع استيطاني استعماري قاد إلى إنشاء ما يسمى بـ “دولة إسرائيل” بقوة السلاح على أنقاض الأرض الفلسطينية. وقد تباينت أشكال الصهيونية بين الدينية، والعلمانية، والعملية، لكن هدفها ظل ثابتًا: إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
ومسألة القول بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين ليست سوى أكذوبة ومغالطة تأريخية دأب اليهود بكل إمْكَاناتهم على الترويج لها؛ بغية إقناع الرأي العام العالمي بأحقيتهم في فلسطين، مع أنها أرض عربية خالصة بدليل أن العرب كانوا قبل اغتصابها واحتلالها عام 1914 يشكِّلون نسبة كبيرة من عدد سكانها قُدِّرت بـ 92 %، في الوقت الذي كان اليهود فيها قوميةٌ صغيرة لا تتجاوز الـ 8 % من عدد السكان.
لماذا تبنَّت دولُ الغرب فكرةَ الصهيونية؟
شهد العالَمُ في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين تحوّلًا كَبيرًا في المواقف الغربية تجاه ما يُعرَفُ بالحركة الصهيونية، والتي كانت تدعو -كما أسلفنا- إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.
هذه المواقف لم تكن منطلقة فقط من التعاطف مع اليهود أَو الرغبة في حَـلّ “المسألة اليهودية”، بل ارتبطت بجملة من الأسباب السياسية، والاقتصادية، والدينية، والاستراتيجية التي دفعت الغرب – خَاصَّة بريطانيا وفرنسا ولاحقًا الولايات المتحدة – إلى تبنّي المشروع الصهيوني ودعمه.
لذلك حظيت الصهيونية منذ صدور وعد بلفور عام 1917م وطرحها بالتالي على طاولة التطبيق، بدعم لا محدود من معظم دول الغرب التي تبنت الفكرة لعدة أسباب منها:
- تصدير “المسألة اليهودية”أي التوترات والاحتكاكات المُستمرّة بين المجتمعات اليهودية وسائر السكان، حَيثُ كانت الصهيونية، بالنسبة لبعض الدول الغربية، وسيلة لتفريغ أُورُوبا من اليهود ودفعهم إلى الهجرة نحو فلسطين، وبالتالي “تصدير المشكلة” خارج القارة.
- توظيف ديني – توراتي،حَيثُ كان في الذهنية الغربية – لا سِـيَّـما في بريطانيا البروتستانتية – تصوّرات دينية ترى في عودة اليهود إلى “أرض الميعاد” تحقيقًا لنبوءات توراتية. هذا البُعد الديني أسهم في تهيئة المزاج العام لتقبّل المشروع الصهيوني، بل والتحمّس له.
- مصالحُ استراتيجية استعماريةرأت بريطانيا وفرنسا في الصهيونية أدَاة يمكن استخدامها لخدمة مشاريعهما الاستعمارية، خَاصَّة في الشرق الأوسط. فقد وفّرت الصهيونية “شريكًا استيطانيًّا” يمكن زرعه في موقع جغرافي بالغ الأهميّة (فلسطين)، ليكون خنجرًا في خاصرة المشرق العربي وممراته البحرية ومناطقه النفطية.
- النفوذ اليهودي في الغربكانت بعض الحكومات الغربية تدرك النفوذ المالي والإعلامي المتنامي لليهود في الغرب، خَاصَّة في بريطانيا والولايات المتحدة. واعتقدت أن دعم المشروع الصهيوني سيساعدها في كسب وُدِّ اللوبيات اليهودية وتحقيق توازن سياسي داخلي وخارجي.
- كسب التأييد اليهودي في الحرب العالمية الأُولىفأثناء الحرب العالمية الأولى، رأت بريطانيا في إعلان دعمها للصهيونية (وعد بلفور 1917) وسيلة لكسب تأييد يهود العالم، خَاصَّة في أمريكا وروسيا، وبذلك دخلت الصهيونية رسميًّا ضمن الحسابات الجيوسياسية للحرب والنفوذ العالمي.
- الصهيونية كحاجز أمام وحدة الشرق، حَيثُ ساهمت الصهيونية في منع قيام وحدة عربية إسلامية في المنطقة. وقد أدرك الغرب أن إقامة كيان استيطاني عدائي في قلب الشرق الأوسط سيظل عاملَ تمزيق دائم لأي مشروع نهضوي عربي أَو تحرّري إسلامي.
لذلك ولكل ما سيق وبعد الإعلان عن إنشاء “دولة إسرائيل” سارعت دول الغرب إلى الاعتراف بهذه الدولة الدخيلة على الأراضي العربية، وكان لازمًا على تلك الدول العمل على حماية هذا الكيان من أي خطر يتهدّد وجوده وُصُـولًا إلى جعله القوة العسكرية الأقوى والمهيمنة على منطقة الشرق الأوسط برمتها.
(وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة)
تنطلق الجمهورية الإسلامية في إيران منذ قيام الثورة الإسلامية المباركة التي اندلعت ضد نظام الشاة عام 1979م، في بناء قدراتها العسكرية الضاربة، من المبدأ القرآني القائل: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة) مستندة في ذلك على حقها المشروع في التسلح، ووجوب الوقوف في وجه الظلم والاستكبار والهيمنة أيًّا كانت، لا سيما أنها عانت لعقود من سياسات الغرب الاستكبارية التي كانت تتحكم في مصير وثروات الشعب الإيراني.
نبذة عن البرنامج النووي الإيراني للأغراض السلمية:
بدأ العمل في بناء البرنامج النووي الإيراني في خمسينيات القرن الماضي بمساعدة أمريكية ضمن مشروع “الذرة؛ مِن أجلِ السلام”، لكنه أخذ منعطفًا استراتيجيًّا بعد الثورة الإسلامية عام 1979، حَيثُ عملت عليه إيران في ظل توترات مع دول الغرب، وبدء التعاون الإيراني مع روسيا والصين لتطوير البنية التحتية النووية.
ومع أن الدلائل لم تثبت سعي الجمهورية الإسلامية الإيرانية إلى صنع وامتلاك سلاح نووي من خلال هذا البرنامج الذي أكّـدت مرارًا على سلميته، إلا أن واشنطن ودول الغرب فرضت في عام 2013 عقوبات دولية على إيران، لكن جميع الأطراف بما فيها الولايات المتحدة وإيران وبعد مفاوضات مضنية، توصلت عام 2015م إلى الاتّفاق النووي (JCPOA)، وهو الاتّفاق الذي حَــدَّ من تخصيب اليورانيوم مقابل تخفيف العقوبات.
وفي عام 2018 وبعد انتخاب ترامب رئيسًا، أعلن البيت الأبيض انسحاب الولايات المتحدة من الاتّفاق، وإعادة فرض العقوبات؛ فردّت إيران بتقليص التزاماتها النووية، وزيادة نسبة تخصيب اليورانيوم، وفي فجر الثالث عشر من يونيو من عام 2025 شنت طائرات العدوّ الصهيوني بتواطؤ أمريكي غربي، عدوانًا غادرًا على الجمهورية الإسلامية الإيرانية مستهدفة منشأتها النووية وعددًا من علمائها النوويين وقادتها العسكريين؛ ما أَدَّى إلى استشهاد عدد منهم وجرح آخرين، واستشهاد وجرح مئات المدنيين معظمهم من الأطفال والنساء.
هذا العدوان ما يزال مُستمرًّا إلى اليوم، وعليه وبالنظر إلى كُـلّ ما سبق ذكره، يمكن القول بأن الأسباب التي دفعت كيان العدوّ الصهيوني والولايات المتحدة ودول الغرب إلى استهداف البرنامج النووي الإيراني تتمثل في التالي:
أولًا: المخاوف الأمنية والعسكرية:
وتتمثل هذه المخاوف فيما يلي:
- تهديد التفوق العسكري الإسرائيلي منذ عقود، سعت دولة الكيان “إسرائيل” إلى الحفاظ على تفوقها العسكري المطلق في المنطقة، وخَاصَّة في مجال السلاح النووي. وكونها الدولة الوحيدة التي تمتلك ترسانة نووية في الشرق الأوسط، فَــإنَّ امتلاك إيران لقدرات نووية، حتى وإن كانت سلمية أَو قريبة من العتبة النووية، يُعدّ كسرًا لهذا الاحتكار، ويضع توازن الردع موضع شك.
- نظرية “التهديد الوجودي”، حَيثُ يتبنى الكيان الصهيوني سردية مفادها أن النظام الإيراني يطمح إلى إزالة “إسرائيل” من الوجود، وهو ما تدعمه تصريحات سابقة لقادة إيرانيين. وبالتالي، ترى “تل أبيب” أن السماح لإيران بالوصول إلى التكنولوجيا النووية قد يفتح الباب أمام تهديد وجودي مباشر.
ثانيًا: الحسابات الاستراتيجية الغربية:
وتتمثل هذه الحسابات في أمرين هما:
- منع تغيير موازين القوى الإقليمية، حَيثُ ترى الولايات المتحدة والدول الغربية أن حصول إيران على قدرات نووية يعزز من نفوذها الإقليمي ويضعف حلفاءهم التقليديين، سواء في الخليج أَو في “إسرائيل”. وبالتالي فوجود إيران نووية أَو حتى قريبة من هذا المستوى سيُعقّد حسابات الردع الأمريكي، ويقوّض النفوذ الغربي في المنطقة.
- الخشية من سباق تسلح نووي إقليمي ففي حال امتلاك إيران لقدرات نووية، يُحتمل أن تسعى دول أُخرى مثل السعوديّة وتركيا ومصر إلى تطوير برامج نووية خَاصَّة بها؛ مما يُدخِلُ المنطقة في سباق تسلُّح يصعُبُ ضبطُه، ويهدّدُ الأمن العالمي، خُصُوصًا مع تزايد النزاعات والصراعات غير المستقرة.
ثالثًا: البُعد الأيديولوجي والإعلامي:
ويتمثل هذا البُعد في نقطتَين هما:
- تشويه صورة إيران عالميًّا تُستخدَم قضية البرنامج النووي كأدَاة لتأطير إيران كدولة مارقة تسعى لامتلاك أسلحة دمار شامل، ما يُسهّل فرض العقوبات والحصار الاقتصادي والسياسي عليها. وبهذا، تُقدَّم إيران للرأي العام العالمي كتهديد للسلام، لا كدولة تسعى لاستقلال تقني أَو توازن إقليمي.
- توظيف المِلف لتبرير التدخلات؛ إذ لطالما استُخدم المِلف النووي كذريعة لتبرير الوجود العسكري الأمريكي في الخليج، ولشرعنة التعاون العسكري مع الكيان الصهيوني، فضلًا عن استخدامه ورقةَ ضغط دبلوماسيةً في مِلفاتٍ أُخرى كاليمن، وسوريا، والعراق.
رابعًا: التجارب التاريخية والثقة المنعدمة:
- التوجس من نوايا إيران المستقبلية، رغم توقيع الاتّفاق النووي عام 2015، فَــإنَّ الغرب بقي متوجسًا من احتمال استغلال إيران لهذا الاتّفاق كبوابة للوصول إلى قدرات عسكرية نووية مستقبلًا. هذا التوجس ينبع من انعدام الثقة التاريخي بين الجانبين، وخشية واشنطن من عودة إيران كقوة مهيمنة على المنطقة كما كانت قبل الثورة.
- تجربة كوريا الشمالية، حَيثُ ترى “إسرائيل” والولايات المتحدة في التجربة الكورية الشمالية مثالًا حيًّا على ما قد يحدث إذَا تمكّنت دولة معزولة من تطوير سلاح نووي بعد مسار تفاوض طويل، لتتحول بعدها إلى تهديد مباشر لا يمكن احتواؤه بسهولة.
أساليبُ الاستهداف وتنوعها:
يشمل الاستهداف وسائل متعددة منها:
الاغتيالات: تصفية علماء نوويين إيرانيين، مثل محسن فخري زادة
الهجمات السيبرانية: أبرزها فيروس “ستاكسنت” الذي عطّل منشآت نطنز.
- الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية: عبر فرض عقوبات منهكة تهدف لتقييد التطوير التقني.
- الضربات الجوية والتهديد بالحرب: وهو ما نراه اليوم من عدوان صهيوني على إيران؛ باعتبَار الكيان الصهيوني هو الأدَاة الطيعة التي بيد دول الغرب، والتي اقتضى فشل المخطّطات الصهيونية في المنطقة سيما بعد عملية طوفان الأقصى ومن بعدها العدوان الوحشي على قطاع غزة؛ قيامها بمهمة القضاء على البرنامج النووي الإيراني بالوكالة، بحيث تكون هذه الدول في منأى عما سيحل بكيان العدوّ الصهيوني جراء هذا العدوان.
وختامًا..يتّضح أن استهداف البرنامج النووي الإيراني ليس مدفوعًا فقط بمخاوف أمنية عسكرية، بل تندرج تحته شبكة من الأهداف الجيوسياسية، والأيديولوجية، والاقتصادية؛ ما يجعل من الملف النووي الإيراني ساحة صراع مركّبة، تتجاوز حدود إيران لتطال بنية التوازن الإقليمي والدولي.
ومن هنا، فَــإنَّ هذا الاستهداف سيظل حاضرًا ما دامت إيران تتمسك بحقها النووي، ولو تحت مظلة الاستخدام السلمي، وفي حال انتهى الصراع بانتصار إيران فسيكون شاهدًا على نهاية الاستكبار والهيمنة الأمريكية والصهيونية والغربية برمتها.