سوريا …بين الإرث المسموم والواقع المشوش
البيضاء نت | مقالات | الدكتور محمد الحبصي
في سياق ” الشرق الأوسط الجديد ” بالمفهوم الأمريكي – الاسرائيلي تأتي متغيرات المنطقة انطلاقا من استغلال ملحمة 7/ اكتوبر / 20230 وتوظيف تداعياتها لصالح محور ” الانفتاح على اسرائيل ” في أعمق تحول متسافل بعد اتفاقات كامب ديفيد الكارثية بين مصر والكيان الصهيوني التي دشنت ظاهريا تأسيس هذا المحور الذي امتد شرقا في دول الخليج قافزا شكليا عن المملكة السعودية لحسابات خاصة أجلت إعلانها عن قيادة هذا المحور إلى حين إنضاج المنطقة وتهيئتها أكثر لذلك..وعلى طريق الانضاج تم التخلص من نظام صدام حسين شرقا وبعده من نظام القذافي غربا..وتم توطين الثقافة الطائفية في العراق وسوريا ولبنان الذي تجلى أكثر في العقد الأخير زمن الثورة على نظام الأسد..وانخراط حزب الله ومعه إيران في معارك النظام ضد فصائل الثورة السورية المدعومة من المحور الطائفي السني..
وكان خطأ انخراط الحزب في هذه المواجهة وهو الحزب الذي حقق الانجاز الأهم في تاريخ الصراع مع اسرائيل من خلال التحرير غير المشروط لجنوب لبنان في العام 2000 وانتصار تموز 2006 وهما انجازان غير مسبوقان منحا للحزب حضورا إقليميا عظيما وشعبية متعدية للطوائف ..
وجاءت الفرصة التاريخية للمحور الأمريكي الاسرائيلي في المنطقة للانتقام من محور المقاومة ورد الضربة عليه في سوريا وإسقاطه أخلاقيا قبل إسقاطه عسكريا أن قدر على ذلك..وفرز الصراع هناك على أساس طائفي في التفاصيل الآلية ليومياته..وفشلت كل المقولات التي نظرت لغير ذلك وحاولت توصيفه على أنه صراع للاحتفاظ بسوريا كحلقة مركزية لمحور المقاومة رغم كل الملاحظات التي رافقت سلوك النظام الإجرامي وفساده الداخلي…
ورغم ميلان كفة ميزان الصراع لصالح النظام وداعميه الا أن الحقيقة كانت غير ذلك..حيث ربح النظام شكليا المواجهة بينما كان في الحقيقة يتآكل من داخله بفعل الفساد وغياب الولاء الوطني وبالأخص في المؤسسة العسكرية والأمنية وطبعا سائر مؤسسات الدولة الفاشلة ومرافقها..
ولك أن تتصور دولة ونظام يعتاش على صناعتي المخدرات وإرهاب الناس ..ويتاجر بشعار المقاومة وهو أبعد ما يكون عنها وذلك بتدميره لمنظومة القيم ومسخه للإنسان من خلال تجويعه وقهره وحرمانه وأفقاره وارعابه ..وفي نفس الوقت مسالمته المفضوحة للعدو الاسرائيلي ..في خليط غرائبي عجيب ..نتيجته نظام يعادي شعبه علنا ويستسلم لعدوه سرا…
في هذه المناخات حاول المحور الأمريكي في المنطقة استعادة سوريا من خلال إعادة رأس النظام للحضن العربي كما يقال..والهدف بالطبع اخراج سوريا كليا من دائرة المحور الآخر والتي كان النظام السوري في حقيقته عبئا على هذا المحور..وتحقق بهذا الصدد نجاح نسبي ظهر بعد يوم طوفان الأقصى حيث وقفت سوريا من مجريات حرب الإبادة في غزة ومن معادلة وحدة الساحات وجبهات الإسناد موقف المتفرج وكأنها في قارة أخرى..واختارت الابتعاد..وسجل النظام هنا نقطة لصالح الموقف العربي المتواطئ..وفي نفس الوقت ظل محتفظا بالوجود الإيراني حيث حرص هذا الأخير على تكريس حضوره رغم خسائره الفادحة في عمليات الاستهداف الاسرائيلي والتي كان للنظام يد مباشرة فيها…..
لقد عمل النظام السوري المقلوع وبدأب ومنذ ما بعد حرب تشرين 1973 على إقصاء الشعب السوري عن المقاومة وثقافتها..بل وعمل على خلق حالة من العداء معها..وجيش الشارع ضدها ..ووصل الأمر إلى مواجهتها في لبنان عبر ما عرف بقوات الردع العربية التي دخلت المعركة للحيلولة دون حسمها من قبل قوات الثورة الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية..وتم تدمير مخيمات الفلسطينيين مثل تل الزعتر وغيره..وظل هذا الحال إلى حين خروج قوات الثورة الفلسطينية من لبنان اثر اجتياح 1982 والى حين اغتيال الرئيس رفيق الحريري وإخراج القوات السورية من هناك….. ومن التناقضات في سلوك النظام السوري المقلوع كيف أنه منع بتاتا بل وحارب مجرد فكر المقاومة في سوريا رغم احتلال الكيان الزائل لجزء غال من الأرض السورية وهو الجولان المحتل.. ووصل الأمر بالنظام لدرجة منعه حتى المقاومة المدنية السلمية ثقافية كانت أم إعلامية..ولم يكن الجولان في يوم من الأيام على أجندة أولويات قيادة النظام ولا قيادة حزب البعث الحاكم..وكل السوريين يعرفون هذه الحقيقة وأولهم النازحين من أهل الجولان وكثيرا ما كان الشهيد مدحت صالح وهو من أبناء الجولان ومسئول ملفه في رئاسة الوزراء السوري يشكو لي من اهمال هذا الملف ..في نفس الوقت الذي كان فيه النظام يتبجح بدعم المقاومة ووقوفه مع فلسطين التي أذاق لاجئيها في المخيمات كل صنوف القهر والتعذيب..وتدمير وتعفيش مخيم اليرموك الشاهد الأكبر على ما أقول…
بمعنى آخر..قام النظام بإخراج الشعب السوري بأغلبيته( السنية ) من معادلة المواجهة مع العدو واكتفى بدعم ما للفريق اللبناني ( الشيعي ) المقاوم وهنا تأتي اللعبة القذرة والخطرة التي أدارها النظام بخبث وكان على المقاومة في لبنان وغيره أن تتنبه لها بدل التساهل معها وترك النظام يتمادى فيها..هذه اللعبة التي سمحت لخلق كيانين متناقضين في سوريا ولبنان..كيان مقاوم وهو الأقل في لبنان وكيان ممنوع عليه المقاومة ( خوفا منه) وهم الأكثرية في سوريا..وذلك لأجل أن يقال فيما بعد : السنة في بلاد الشام لا يقاومون..والشيعة هم فقط المقاومة..وهو ما أوصل الى مقولة : السنة هم جماعة أمريكا واسرائيل..والشيعة هم أعداؤهما..رغم خطأ وعدم واقعية هذه المقولة وبشاعتها وخطورتها..ومع هذا راجت في أوساط الكثيرين وساعد في رواجها موقف الأنظمة المحسوبة زورا على الإسلام وعلى السنة وتآمرها على فلسطين..
هذه اللعبة الخطرة كانت تصب في طاحونة النظام وتعمق من الانقسام الطائفي..ولولا المقاومة السنية في فلسطين المتمثلة في حركتي حماس والجهاد المدعومة من إيران لكان توظيف هذه المؤامرة أكبر وأشد فتكا لنسيج المنطقة..
ولعل في هذا تفسير لموقف الحركات السلفية الجهادية التي لم تكن تعطي لفلسطين ولمجاهدة العدو الصهيوني أدنى اهتمام وذلك من منطلق التشكيك في طائفية هذه المقاومة وحتى الفلسطينية منها..
وكثيرا ما كان يقال بأن قوى المقاومة وخاصة في لبنان تمنع ظهور قوى أخرى في الطرف السني تنخرط في مواجهة العدو وان وجدت فلا تعطيها فرصة المشاركة في الجهاد..وهذا الزعم يمكن أن يكون صحيح نسبيا وكان يفسر من طرف المقاومة بأن له علاقة بالفوضى التي تعيشها القوى الجهادية السنية أن على صعيد المرجعية القيادية والفكرية أو على صعيد الولاءات والبنى التنظيمية. أو على صعيدالأهداف والوسائل والاليات…ناهيك عن الاختراقات الأمنية المفتوحة وكل هذا يتناقض مع طبيعة المواجة مع عدو خبيث وقوي وذو خبرة طويلة وعميقة .ومتفوق تسليحيا وأمنيا وتقنيا..ونافذ في المنطقة والعالم….
ومع الوقت واستمرار الصراع المصبوغ باللون الواحد تقريبا باستثناء الحالة الفلسطينية المتهمة بالولاء لإيران تكرست هذه الظاهرة بقصد وبغير قصد ..وإن كان لبنان بتركيبته السياسية الطائفية ما كان لتنجح فيه كثيرا سوى مثل هذه الظاهرة التي أستغلها النظام السوري البائد حين أخرج مسلمي سوريا بأكثريتهم السنية من معادلة الصراع وبهذا أحدث ردة في الموقف الشعبي السوري من فلسطين وهو موقف تاريخي منذ بدايات المسألة الفلسطينية في مطلع القرن الماضي..ومن ذا الذي يجهل دور الشيخ عز الدين القسام رحمه الله وهو السوري في نهضة الشعب الفلسطيني وثوراته…
وهنا أشير إلى أنه كان من المفترض أن توجد مثل هذه المقاومة في الساحة السورية لكن النظام البائد مثل العقبة الأساس في سبيل تحقيق ذلك..وحال دون انخراط الشعب السوري في الصراع ومن ثم فتح الساحة السورية للجهاد لتكون الساحة الأهم من أفغانستان على سبيل المثال ولكانت سوريا قد استقطبت كل الراغبين في المقاومة ووضعت صيغا صحيحة لتوجيهها وإدارتها..ولكن هذا لم يحدث وحاربه النظام بكل عنف..وكان مجرد التفكير بعمل مقاوم من الأرض السورية يعد جريمة كبرى تقود صاحبها للاعتقال والتصفية…..وأكثر من هذا فإن الجيش السوري نفسه كان النظام قد أخرجه من المواجهة من خلال تعطيل قدراته وفرض نظم ولوائح تجعل منه جيش الرئيس والطائفة لا جيش الشعب…وجيشا بلا عقيدة قتالية..وبلا دين…
كل هذا وما جرى في العقد الأخير في سوريا إبان الثورة السورية أوجد ما يمكن تسميته فك الارتباط بين قطاعات هي الأوسع من الشعب السوري وقضية فلسطين..هذه القطاعات التي دفعت كل الأثمان باسم فلسطين والمقاومة كانت ترى عكس ذلك..فلا فلسطين ولا مقاومة لدى النظام وكلها لا تزيد عن كونها شعارات خادعة وكاذبة يمارسها النظام ليتسنى له قهر الشعب وتجويعه..وأكثر من هذا فإن حلفاء النظام أدركوا ولو متأخرين هذه الحقيقة لدرجة التهامس بها في مجالسهم الخاصة ووصلت مستويات الثقة بالنظام إلى حد الصفر خاصة مع تصاعد عمليات الاغتيال التي تعرض لها الحلفاء في سوريا…. هذا الميراث الثقيل المسموم من انفصال البيئة الشعبية السورية عن القضية الفلسطينية تم توريثه للعهد الجديد في سوريا ..وزاد عليه موقف هذا العهد أصلا من المقاومة التي كانت ترعاها إيران حيث اختلطت النظرة إلى إيران كعدو لتشمل المقاومة بفصائلها الموالية لإيران..وهذا كله جعل من الموضوع الفلسطيني ملتبسا وموضع شك لا أهمية له فضلا عن الأولوية…ومن هنا تحددت العلاقات مع الفصائل الفلسطينية من خلال استبعادها عن المشهد السياسي وطبعا العسكري..وحصرها في بعض النشاطات الاجتماعية والخيرية…والاكتفاء بالتعاطي مع عنوان واحد هو السلطة الفلسطينية تماما كما هو الحال مع سائر الدول العربية..وبالتالي لم يعد لسوريا أية دور على الصعيد الفلسطيني سوى أنها يتواجد على أرضها مئات ألوف
الفلسطينيين في عدد من المخيمات وبعض من هؤلاء الذين ساندوا فصائل الثورة تم الوفاء لهم من خلال حضورهم في مؤسسات الدولة الجديدة….
أما على صعيد ملف العلاقات مع اسرائيل فإنه بدأ منذ اللحظة الأولى متماهيا مع الموقف الرسمي العربي ومقررات القمم العربية وخاصة الدول المطبعة والمصالحة والمتسالمة مع الكيان…وهنا نجد المتحدثين في الاعلام السوري الرسمي هم الأكثر اندفاعا تجاه فتح وتوسيع وتسريع العلاقة مع اسرائيل معتمدين على تصريحات الرئيس احمد الشرع ووزير خارجيته وغيرهما….. وحجة الجميع هي أن سوريا تعيش أوضاعا لا يمكنها معها إلا سلوك هذا الطريق وانهاء كل أشكال العداء مع اسرائيل حيث لا مكان لاستمرار الصراع ولا قدرة لسوريا المنهكة المدمرة اقتصاديا وعسكريا وحتى اجتماعيا على حمل إرث ومخلفات النظام البائد ومن ذلك موضوع اسرائيل…
أقول لا مشكلة أن تسعى سوريا الجديدة لما ترى فيه مصلحة لشعبها الذي عانى لستين سنة من كذب أنظمته…..لكن المشكلة في سقوف واحتمالات القضية محل النقاش وهي قضية العلاقة مع اسرائيل…فهل ضمن هؤلاء المتسرعون حتى لا أقول المهرولون..هل ضمنوا اسرائيل..بل هل ضمنوا أمريكا راعية اسرائيل ليتكلموا بهذا المنطق وبهذه الثقة..؟!
وهل هو جهل أم محاولة تجاهل لطبيعة الكيان وحقيقة المشروع الصهيوني وحتى طبيعة الولايات المتحدة..هذه الطبيعة التي تؤمن بمعادلة القوة الصفرية في علاقاتها بالمنطقة وبالأخص فيما يسمى بدول الطوق وعلى الأخص سوريا وقد شاهدنا كيف فعلت اسرائيل بمجرد سقوط نظام الأسد وكيف أرجعت القدرات العسكرية والبحثية السورية إلى الصفر تقريبا ..وهذا يعد من ثوابت السياسة الاسرائيلية ومن ورائها السياسة الأمريكية..فالمحيط الاسرائيلي يجب أن يظل هشا وضعيفا ومفككا وغير قادر على النهوض فضلا عن الاتساع…
ثم لماذا ينبري هؤلاء للترويج للعلاقات مع اسرائيل بينما لم نسمع اسرائيليا واحدا يدعو لذلك..ولماذا هذه اللغة التفائلة والمشحونة بخطاب الاعتذار وكأن سوريا كانت هي المعتدية وهي المحتلة لأراضي اسرائيلية ؟!
لينظر هؤلاء حولهم وليأخذوا العبرة من غيرهم ممن سبقهم في هذا الخيار المر…
أتفهم أن نكون واقعيين..وواقعية العلاقة مع اسرائيل عند من يجيزونها لا يجب أن تتجاوز علاقة الاضطرار ولا يجب ابدا وهي اصلا غير طبيعية أن تزيد عن كونها استحلال للميتة بالقدر الذي يحفظ للآكل حياته..أما أن يتم الحديث عنها بهذا الاستمتاع وبهذا القدر من التطبيل والاستبشار بما يتجاوز الواقع والمنطق ..ويقفز عن حقائق التاريخ..والأخطر أنه يستبعد تماما الحقائق القرآنية والنصوص التي ترسم لنا مسارات العلاقات مع الغير..ويهمل سيرة رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسنته التي هي ترجمان القران والدليل والنور الذي يهتدي به المسلم والمؤمن في كل أحواله…
وأخيرا فإن مقارنة البعض سوريا ( قلب الأمة ) بدول الخليج الوظيفية هي حقا مقارنة ظالمة تدل على جهل المقارن بسوريا تاريخا وموقعا وقدرا ودورا..وهو جهل أيضا بدول أنشئت بالأمس وظيفيا لخدمة هيمنة المشروع الغربي على بلداننا…
” ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم قل أن هدى الله هو الهدى ولئن اتبعت من أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير ” البقرة( 120) ..صدق الله العظيم…
الدكتور محمد البحيصي
الكاتب والباحث الفلسطيني