الإمام الذي صلبوه.. لكنه وقف في اليمن من جديد

البيضاء نت | مقالات  

بقلم / أحمد إبراهيم المنصور  

 

 

كان يمكن له أن يُساق إلى قصور المدينة المنورة كأي حفيد من نسل النبوة، يُكرَّم ويُبَجَّل ويُمنَح من فتات السلطان نصيباً مُزيّفاً من الهيبة والمكانة. لكنه، وهو زيد بن علي بن الحسين (عليهم السلام)، لم يكن من أولئك الذين يتكئون على نسبهم ليصمتوا عن الظلم، ولا من الذين يخافون على حياتهم أكثر من خوفهم على كرامة الأمة. كان يرى في الصمت خيانة، وفي السكوت عن بني أمية عاراً لا يُغسله نسب، ولا تشفع له قرابة.

 

ولد في المدينة، حيث تنحني النخيل إجلالاً لظل عليٍّ والحسين (عليهم السلام). تربّى في بيتِ علمٍ وورع، لكنّ صدره لم يكن متسعاً لحكايات الورع المعزول عن الواقع. لقد فتح عينيه على أمة قُلبت موازينها، فصار الظالم يحكم، والعادل يُلاحق، والبيت النبوي يُراقَب كما يُراقب المجرمون. كان هشام بن عبد الملك يُحصي أنفاس آل علي (عليه السلام) كما يُحصي جباةُ الشام أعشار الزكاة، لكن زيداً (عليه السلام) لم يكن ممن تُرعبهم العيون ولا السيوف.

 

حين وصل إلى الكوفة، لم يكن قد جاءها بصفقة سياسية، ولا ليُساوم على رقبة، إنما جاءها بثقل السلالة، وبصوتٍ يشبه صوت جده الحسين (عليه السلام) وهو يخطب على أرض كربلاء. جاءها ليوقظ ضمائر الذين كانوا يُرسلون إليه الرسائل والعهود والوعود، فخذلوه كما خذلوا من قبله. تراجعوا حين سمعوا أنه لا يَخوض في مقام الصحابة، ولا يُقحم الثورة في نزاعات القرون، وكأن البيعة عندهم مشروطة بالعداء، لا بالحق. فوقف زيد (عليه السلام) على أطلال الوعد، وقال كلمته التي خلّدها التاريخ: “رفضتموني؟ إذًا أنتم الرافضة!”.

 

كانت كلماته قصيرة، لكنها لم تكن كلمات منكسرة. كانت أقرب ما تكون إلى الجملة الأخيرة التي يطلقها الأحرار قبل الشهادة، تلك الجملة التي تُخلد في ذاكرة الثائرين، لا في صحائف المؤرخين. قاتل في معركة غير متكافئة، لكنه لم يتراجع، وسقط شهيداً، وارتقى مصلوباً، وظل جسده معلقًا أربع سنوات على أسوار الكوفة. ظنّ بنو أمية أنهم يُهينونه، لكنهم لم يدركوا أنهم بذلك يكتبون له خلوداً من نوعٍ آخر، تماماً كما كتب يزيد للحسين (عليه السلام) حين تركه بلا دفن على رمضاء كربلاء.

 

قصة زيد (عليه السلام) ليست حادثة منفصلة في الزمن، إنما هي فصل من فصول الصراع الأزلي بين المستكبرين والمستضعفين. في ثورته، يمكننا أن نسمع الصدى القديم لصرخات اليوم من صنعاء وصعدة وغزة وجنوب لبنان. لم يكن زيد (عليه السلام) يُنادي بالخلافة، وانما بالعدل. ولم يكن يُطالب بحكم، ولكنه طالب بإزالة حكم الجور، وهي ذات الروح التي نراها اليوم في اليمن وهو يواجه تحالفاً دولياً لا يختلف كثيراً عن بني أمية في جبروتهم وأحلافهم. أولئك الذين صلبوا زيداً (عليه السلام) أرادوا إطفاء نوره، كما حاول التحالف اليوم أن يخنق أنفاس اليمن تحت نار القصف والحصار، لكنهم فشلوا كما فشل أسلافهم.

 

فأنصار الله اليوم هم ورثة تلك الروح. لا ينتظرون نصّاً لتعيين إمام، بل يُعلنونه بالصوت والسلاح متى ما حلّ الظلم. يخرجون من كهوف التهميش ليكتبوا اسمهم في خرائط القوة، بنفس المنطق الذي خرج به زيد بن علي(عليهم السلام): أن السكوت عن الظالم جريمة، وأن المواقف لا تؤخذ بالوراثة بل بالدماء. هم الذين يتحدون إمبراطوريات الإعلام والمال، ويقفون حفاة على جبهات مأرب والجوف كما وقف زيد (عليه السلام) على أبواب الكوفة، يواجه الخذلان بالإيمان، والخيانة بالشهادة.

 

وهنا تكمن قيمة زيد (عليه السلام) في زمننا، لا كإمام فقهيّ فحسب، وإنما كحالة. كرمز لم يكن معصوماً لكنه كان صادقاً، لم يكن منتظراً ولكنه كان مبادراً، لم يكن سياسياً يُناور ولكنه كان ثائراً يواجه. وكل من يحمل هذا الخطّ اليوم هو من نسله، وإن لم يكن من دمه. لهذا تجد اليمن اليوم لا تكتفي بترديد اسم زيد (عليه السلام) في المناهج أو الخطب، إنما تكرره في المعارك والقرارات، في الموقف من الصهاينة، وفي الاصطفاف مع فلسطين، في مقارعة قوى الاستكبار التي تمثل امتداداً حديثاً لبني أمية بلباس أمريكي.

 

لم يكن غريباً أن يصف قائد المقاومة في غزة، أبو عبيدة، أنصار الله بأنهم “إخوان الصدق”، فزيد (عليه السلام) كان كذلك: صادقاً في السيف كما هو في القول. وهي شهادة تُقال بعد قرون من صلبه، لكنّها تنبض بحضوره كما لو أنه ما زال يقف، يجلجل بالحق، ويحضّ الناس على النهوض. وبين كل زيد وزيد، هناك دماء لا تزال تكتب فصول الأمة، تُصلَب على أسوار الإعلام، وتُحرق في أفران الحصار، لكنها لا تنكسر.

 

في تاريخنا، لم نعرف زيداً قاعداً، بل شهيداً. ولم نعرف ثائراً يشبهه، إلا من سار على دربه، لا بالشعارات بل بالمواقف. واليمن، في زماننا، لا تمجّد زيداً لأنها شيعية، بل لأنها تؤمن بأن الظلم لا يُنتزع بالمفاوضات، وإنما بالثورة. ومن صلب زيد (عليه السلام)، وُلِدت جبهة، ومن دمه سالت وصايا، ومن صموده نشأت أمة تعرف أن الوقوف مع الحق لا يتطلب نصوصاً إنما يتطلب إرادة.