كيف أدارت الموانئ المصرية ظهرها لغزة واليمن، لتصبح رئة اقتصاد العدو الصهيوني

البيضاء نت | تقرير يحيى الشامي 

 

 

في الوقت الذي نجحت فيه القوات المسلحة اليمنية في فرض حصار بحري ناجح على كيان العدو الصهيوني، مسببةً أزمةً خانقة لكيان العدو الإسرائيلي، ظهر شريان إنقاذٍ التفافي لإمداد ودعم آلة الحرب الصهيونية. يفتش هذا التحقيق -في سلسلة أجزائه وعبر مصادر ملاحية مفتوحة وتقارير معتبرة- عن أدوار إنقاذية مشبوهة تتجاوز القرارات السياسية لدول إسلامية عربية، وتقفز على مبادئ الصراع القائمة منذ عقود بينها وكيان العدو الإسرائيلي، وجميعها -تقريباً- يجري خلف ستار اتفاقيات التطبيع، وسلامة واستقرار المنطقة، وأحدث موديلاتها هو كذبة “الاتفاق الإبراهيمي” القائم على منح العدو الإسرائيلي شرعية وجودية، وتبرير فصول استباحته واستكمال دوائر جريمته اللامتناهية.

 

كشفت بياناتُ تتبُّع حركة الملاحة البحرية عن شبكة معقدة من التحايل والخداع، تتحول فيها الموانئ المصرية إلى محطات عبور استراتيجية، تهدف إلى كسر الحظر اليمني، وتأمين استمرار تدفق البضائع إلى اقتصاد كيان العدو، وإمداده في ذروة إنهاكه وانهماكهِ في حربه الإجرامية المستمرة على قطاع غزة. تُسمي الصحافة العبرية العملية هذا الالتفاف بـ”تكيّف أساليب النقل البحري” لتجاوز تحديات الحظر اليمني، وتتباهى بنجاح الكيان في تطويع المسافة القصيرة بين مصر وفلسطين المحتلة لمصلحة إنقاذ الاقتصاد الصهيوني.


 

الأدلة والقرائن من المصادر المفتوحة:

كيف تساعد مصر وتركيا الاحتلالَ على الاحتيال لتجاوز الحصار اليمني؟

  • لوحظ منذ بداية العمليات البحرية اليمنية لفرض الحصار على الاحتلال أن نسبة كبيرة من السفن في موانئ فلسطين المحتلة قادمة من مصر وتركيا وقبرص واليونان.
  • صحيح تعد تركيا أحد الشركاء التجاريين الرئيسيين للاحتلال، لكن مصر وبرغم تجارتها مع الاحتلال إلا أن حجم التبادل التجاري محدود، ومعظمه في شراء مصر للغاز من كيان العدو.
  • في المقابل بالرغم من أن الصين والهند وأستراليا وكوريا الجنوبية من الشركاء التجاريين الرئيسيين للعدو الإسرائيلي، إلا أن نسبة السفن القادمة من هذه الدول قليلة كما لاحظنا خلال الرصد.

 

 

هل هناك عملية نقل ترانزيت عبر موانئ الدول المذكورة؟

في ديسمبر 2023، نشرت القناة 12 الإسرائيلية تقريرًا بعنوان: “التمرين الذي نظمته شركات الشحن لتجاوز الحصار الحوثي”، تناول استعدادات شركات الشحن لاعتماد مسارات بديلة لتفريغ الحاويات المتجهة إلى “إسرائيل”. ووفقًا للتقرير، تدرس هذه الشركات خيار استخدام موانئ وسيطة مثل موانئ اليونان أو قبرص أو مصر، لنقل الحاويات من هناك إلى “إسرائيل” بواسطة سفن أصغر، في رحلة لا تتجاوز 4 إلى 5 أيام.

 

وأوضح التقرير أن الحاويات المنطلقة من الموانئ الشرقية ستحمل وثائق شحن تُدرج هذه الموانئ الوسيطة مثل تركيا، اليونان، قبرص، أو مصر، بصفتها وجهات نهائية، وبعد الوصول إليها، تُفرغ الحاويات وتُنقل إلى سفن أصغر تستكمل رحلتها نحو الموانئ الإسرائيلية، فعلى سبيل المثال، سفينة تغادر الصين محملة ببضائع موجهة لـ”إسرائيل” ستحصل على بوليصة شحن توحي بأن الوجهة هي ميناء بيرايوس اليوناني، ليُعاد تحميل الحاويات لاحقًا على سفينة صغيرة تتوجه إلى موانئ فلسطين المحتلّة.

 

وعطفاً على ما نقله التقرير العبري عن “يلاد غور أرييه”، وكيل الجمارك والشحن الدولي في “إسرائيل” بقوله “إن هذه الآلية، رغم تكلفتها الإضافية، تظل أفضل من خيار الإبحار حول القارة الإفريقية”، ومن خلال تتبع حركة الملاحة، يمكن رصد ارتفاع في نشاط النقل البحري بين الموانئ التي حددها الاحتلال كمراكز ترانزيت، وبين موانئ فلسطين المحتلة، ما يشير إلى بدء تطبيق هذه الاستراتيجية بدعم وتسهيل من الدول المالكة لتلك الموانئ الوسيطة.

 

وتأتي الموانئ المصرية في مقدمة هذه الوجهات، لما توفّره من ميزة واضحة لكيانا لعدو الإسرائيلي لقربها الجغرافي، إذ لا تستغرق الرحلة أكثر من يوم واحد، وتشير بيانات التتبع إلى أن سفينة أو اثنتين تبحران يوميًا من مصر إلى الموانئ الإسرائيلية، كما سيتضح في هذا التحقيق.

 

استراتيجية “التكيّف الملاحي”: تحايل صهيوني بمباركة رسمية

استشرف العدو باكراً الأزمة وأعد لها مسبقاً خطة واستراتيجية مدروسة تفترض السيناريو الجاري اليوم في البحر، ففي ديسمبر 2023، ومع بدء الحصار اليمني، كشفت الصحافة العبرية عن خطط شركات الشحن الصهيونية لاستخدام موانئ وسيطة، حيث أكد مسؤولون في جمارك العدو أن هذه الآلية، رغم تكلفتها، تبقى أفضل من الدوران حول أفريقيا، فيما يُعرف بطريق الرجاء الصالح.

 

وتعتمد الاستراتيجية على تكتيكات مضللة، رُصدت بشكل متكرر في حركة السفن المتجهة إلى موانئ العدو تقوم على التالي:

تغيير وجهة الشحنات: تصل البضائع القادمة من آسيا وغيرها إلى الموانئ المصرية.

تزوير وثائق الشحن (البوليصات): يتم تغيير بوليصات الشحن لإخفاء الوجهة النهائية الحقيقية.

النقل لسفن أصغر: تُنقل الحمولات إلى سفن أخرى، غالبًا ما تكون أصغر، لتبحر في رحلات قصيرة وسريعة نحو موانئ العدو.

إغلاق أجهزة التعارف (AIS): تتعمد العديد من السفن إغلاق أنظمة التعرف الآلي لتجنب الرصد وتضليل حركة الملاحة.

 

موانئ مصر الأقرب والأقل كلفة لإمداد العدو

تبرز الموانئ المصرية، وتحديداً موانئ بورسعيد، الإسكندرية، دمياط، والعريش، كخيار لوجستي مثالي لكيان العدو لعدة أسباب:

القرب الجغرافي: المسافة بين ميناء العريش المصري وميناء أشدود الصهيوني لا تتجاوز 250 كيلومترًا، في رحلة بحرية تستغرق أقل من 9 ساعات. أما المسافة من بورسعيد إلى حيفا فلا تتعدى 360 كيلومترًا. هذا القرب يقلل التكلفة والوقت، ويضمن تدفقًا سريعًا للإمدادات.

 

بنية تحتية متكاملة: وجود مصانع مصرية للإسمنت ومواد البناء في محيط هذه الموانئ يسهل عمليات التصدير المباشر لهذه المواد الحيوية التي يستخدمها العدو.

وتؤكد بيانات الرصد الملاحي هذه الحقيقة الصادمة، حيث تبحر سفينة أو اثنتان على الأقل يوميًا من الموانئ المصرية باتجاه موانئ فلسطين المحتلة، في حين تكاد تختفي الرحلات المباشرة من الصين أو الهند، مع أن أرقام التبادل التجاري بين آسيا والكيان تحتفظ بمستويات متقدمة من التبادل التجاري السلعي.


 

أرقام تكشف حجم التواطؤ:

خلال شهري يونيو ويوليو الماضيين فقط، أظهر تتبع حركة 15 سفينة حجم الكارثة:

ميناء أشدود العدو: استقبل 38 رحلة لسفينة “VASSILIKO” و32 رحلة لسفينة “ZA Y YAN K”، جميعها قادمة من مصر. وسجلت سفينة “SHIRA-E” وحدها 35 رسوًا، 31 منها كانت قادمة مباشرة من ميناء العريش المصري. أما سفينتا الأسمنت “CEMENT 1” و “CEMENT 2” فقد رسيتا في الميناء أكثر من 100 مرة.

 

ميناء حيفا العدو: استقبل سفينة “NOVA CORALIA” 37 رحلة، 23 منها من الموانئ المصرية، بينما زارت سفينة “HALO” موانئ العدو 51 مرة.

تمثل هذه شبكة إمداد متكاملة تنقل كل شيء: حاويات بضائع عامة، وقود، مواد بناء وإسمنت حيوية، فحم، وإمدادات غذائية. وقد أظهرت تقارير سابقة أن مصر جاءت في المرتبة الثانية بعد الإمارات من حيث عدد فئات المنتجات التي تم تصديرها إلى كيان العدو خلال حربه على غزة.


التبادل التجاري طفرة “تطبيعية خيانية”:

تتطابق طفرة حركة الملاحة بشكل كامل مع الأرقام الرسمية الصادرة عن مكتب الإحصاء التابع للعدو، والتي تكشف عن زيادة هائلة في حجم التجارة مع مصر منذ بدء الحرب والحصار اليمني:

 

تضاعف الواردات المصرية: ضاعفت مصر قيمة وارداتها من كيان العدو منذ أكتوبر 2023، لتصل إلى 331.6 مليون دولار حتى يوليو 2024، مقارنة بـ 106.8 مليون دولار فقط لنفس الفترة من العام السابق.

 

زيادة الصادرات إلى العدو: ارتفعت قيمة الصادرات المصرية إلى كيان العدو خلال نفس الفترة لتصل إلى 170.1 مليون دولار.

تقدّم الأرقام هو الدليل القاطع على أن ما يجري يتجاوز التبادل التجاري المعهود، ليصبح دعمًا اقتصاديًا مباشرًا وممنهجًا لاقتصاد العدو في وقت الحرب.

المسؤولية القانونية والأخلاقية

فضلاً عن كونها خرقاً لمبادئ الصراع العربي الإسرائيلي، ومخرجات ومواثيق وبيانات القمم العربية ومنظومة الجامعة العربية ولائحتها التأسيسية، فإن تسهيل عبور شحنات حيوية لكيان العدو -الذي يرتكب جريمة إبادة جماعية موثقة- يضع الدول المتورطة في دائرة المسؤولية. فوفقًا للمادة 25 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، يُعتبر أي طرف “يُسهل ارتكاب جريمة حرب شريكًا في الجريمة”.

 

وبينما تؤكد السلطات المصرية التزامها بحدود تجارية مزعومة، ترسم البيانات الملاحية والأرقام التجارية صورة مختلفة تمامًا، صورة لتواطؤ مباشر يطعن فلسطين في ظهرها، ويخون جهود اليمن في نصرتها.