خطاب الغنم
البيضاء نت | مقالات
بقلم / د. عبدالرحمن المختار
مشكلةٌ أثارها للبنان قرارُ الحكومة اللبنانية القاضي بتكليف الجيش تقديمَ خطة عملية لنزع سلاح حزب الله، تحت عنوان (حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية) خلالَ مدةٍ مزمَّنة لإقرارها من جانب الحكومة ورئاسة الدولة، ليكون أجل تنفيذها نهاية العام الجاري!
والذريعة المعلَنة لهذا القرار هي إدخَال حزب الله لبنانَ في حرب مع الكيان الصهيوني؛ بسَببِ إسناده لغزة، وهو ما يعني -وفقًا لمنطق أصحاب الذريعة- أن حزب الله مختطِفٌ لقرار الحرب والسلم من يد الدولة اللبنانية!
والواضح أن الحكومة اللبنانية ومَن يطلق مثل هذه الذريعة تناسوا أن اجتياح الكيان الصهيوني سابقًا للبنان حتى العاصمة بيروت لم يكن؛ بسَببِ اختطاف حزب الله لقرار السلم والحرب؛ باعتبَار أن حزب الله لم يكن موجودًا بشكله القائم حَـاليًّا، وأن تحرير لبنان لم يتم إلّا بجهود وتضحيات حزب الله، الذي تمكّن من تحرير الأراضي اللبنانية بإجبار الكيان الصهيوني على مغادرتها يجرّ أذيال الخيبة والهزيمة.
واليوم، وبعد تضحيات جسام قدّمها حزب الله في سبيل حماية لبنان وحفظ كرامته وسيادته، تردّد الحكومة اللبنانية -دون خجل- أن حزب الله غامر بمستقبل لبنان بإسناده لمظلومية أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، وتحاول الحكومة اللبنانية بترديد هذه الذريعة تزييف الواقع وطمس الحقيقة خدمةً للكيان الصهيوني!
فلبنان -سواء أسند حزب الله أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة أم لا- مستهدَف من جانب الكيان الصهيوني، وأن خطوة حزب الله الإسنادية -رغم أنها واجبة- إلا أنها كانت خطوة استباقية؛ باعتبَار أن قادة الكيان الصهيوني وعلى رأسهم نتنياهو كرّروا الإعلان عن نواياهم الإجرامية تجاه لبنان.
وبغضّ النظر عمّا سبق خطوة حزب الله، وتجاهُل الحكومة اللبنانية للنوايا الإجرامية تجاه لبنان من جانب الكيان الصهيوني، وعن تنفيذ حزب الله لتلك الخطوة الإسنادية والدفاعية في ذات الوقت.
لنترك كُـلّ ذلك ولنأخذ ما بعد اتّفاق وقف إطلاق النار بين الكيان الصهيوني ولبنان، حين أصبح قرار السلم والحرب بيد الحكومة اللبنانية، وحين التزم حزب الله بشكل فعلي مضمون اتّفاق وقف إطلاق النار، تاركًا للحكومة اللبنانية كامل الصلاحية في التصرّف؛ فما الذي فعله الكيان الصهيوني بعد اتّفاق وقف إطلاق النار وما الذي فعلته الحكومة اللبنانية؟
لقد استباح الكيان الصهيوني كامل الجغرافيا اللبنانية منفِّذًا مئات الغارات الجوية ضد أبناء الشعب اللبناني نتج عنها عدد كبير من الشهداء والجرحى وخسائر مادية كبيرة، ولا يزال الكيان الصهيوني مُستمرّا في استباحته للأراضي اللبنانية وللدم اللبناني، ولم يتوقف حتى اليوم، رغم أن حزب الله لم يُبادر بأي ردّ على جرائم الكيان الصهيوني منذ توقيع اتّفاق وقف إطلاق النار وحتى اليوم!
وبالمقابل لم تحَرّك الحكومة اللبنانية ساكنًا في مواجهة الجرائم الصهيونية اليومية بحق المواطنين اللبنانيين، بل إنها لم تحَرّك ساكنًا رغم استهداف الكيان الصهيوني لعدد من منتسبي الجيش اللبناني!
وتنتفي مع كُـلّ ذلك ذريعة الحكومة اللبنانية بمصادرة حزب الله لقرار السلم والحرب لحسابه، فحزب الله التزم بشكل حرفي وفعلي باتّفاق وقف إطلاق النار، الذي انتهكه الكيان الصهيوني منذ اليوم الأول لنفاذه، ولم تنهض الحكومة اللبنانية والجيش اللبناني بواجب الدفاع عن اللبنانيين وعن الأراضي اللبنانية!
ورغم كُـلّ ذلك، غامرت الحكومة اللبنانية بأمن لبنان ومستقبل شعبه بقرارها الذي أصدرته مؤخّرًا متضمنًا نزع سلاح حزب الله، لتفسح بذلك القرار المجال للكيان الصهيوني للسطو على الأراضي اللبنانية وسفك الدم اللبناني، الذي أثبتت الوقائع -وبما لا يدع مجالًا للشك- عجز الحكومة اللبنانية عن تقديم حَــدٍّ أدنى من الحماية لمواطنيها وللأراضي اللبنانية ولأفراد جيشها النظامي في مواجهة الكيان الصهيوني.
وتحاول الحكومة اللبنانية الإيهام بأن قرارها بنزع سلاح حزب الله تحت عنوان “حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية” إنما يأتي تنفيذًا لخطاب القسم لرئيس الدولة وبيان الحكومة، وليس بناءً على إملاءات خارجية معلنة وسافرة!
وحين كرّر حزب الله إعلان موقفه يوم أمس على لسان أمينه العام تمسّكه بسلاحه، ليس في مواجهة الداخل اللبناني بل في مواجهة الكيان الصهيوني، تحَرّكت الحكومة اللبنانية للرّد على موقف حزب الله، وحرّكت أبواقها الإعلامية للتشنيع على موقف أمين عام الحزب، وهي التي لم تتحَرّك في مواجهة جرائم الكيان الصهيوني بحق لبنان أرضًا وإنسانًا!
وإذا ما ألقينا نظرة سريعة على ما يسمى بخطاب القسم لرئيس الدولة أمام مجلس النواب، الذي تزعم الحكومة اللبنانية أن قرارها بنزع سلاح حزب الله جاء تنفيذًا لذلك القسم، فَــإنَّنا سنجد أن الحكومة بقرارها في حق سلاح حزب الله انتهكت بشكل سافر مضمون ما يسمى بخطاب القسم لرئيس الدولة.
فقد ورد ضمن فقرات ذلك الخطاب ما نصّه:
(… اليوم تبدأ مرحلة جديدة من تاريخ لبنان، أقسمتُ فيها أمام مجلسكم الكريم وأمام الشعب اللبناني يمين الإخلاص للأُمَّـة اللبنانية، أن أكون الخادم الأول في الحفاظ على الميثاق ووثيقة الوفاق الوطني والتزامي بتطبيقها بما يخدم المصلحة الوطنية العليا، وأن أمارس صلاحيات رئيس الجمهورية كاملة كحَكم عادل بين المؤسّسات هدفه حماية قدسية الحريات الفردية والجماعية…).
والواضح أن الحكومة اللبنانية بقرارها الكارثي لا تخدم الشعب اللبناني -وفقًا لما ورد في الفقرة السابقة- ولا تحافظ على الميثاق ووثيقة الوفاق الوطني، ولا يخدم قرارها المصلحة العليا للبنان، ولا يحمي الحريات الفردية، ولا يجعل من الرئيس الخادم الأول، بل المدمّـر الأول لمستقبل لبنان!
وورد أَيْـضًا ضمن فقرات ما يسمى بخطاب القسم الذي تتذرع الحكومة اللبنانية بأن قرار نزع سلاح حزب الله جاء تنفيذًا له، ما نصُّه:
(… عهدي أن أمارس دوري كقائد أعلى للقوات المسلحة وكرئيس للمجلس الأعلى للدفاع بحيث أعمل من خلالهما على تأكيد حق الدولة في احتكار حمل السلاح، دولة تستثمر في جيشها ليضبط الحدود ويساهم في تثبيتها جنوبًا وترسيمها شرقًا وشمالًا وبحرًا ويمنع التهريب، ويحارب الإرهاب، ويحفظ وَحدة الأراضي اللبنانية ويطبق القرارات الدولية ويحترم اتّفاق الهدنة ويمنع الاعتداءات الإسرائيلية على الأراضي اللبنانية، جيش لديه عقيدة قتالية دفاعية يحمي الشعب ويخوض الحروب وفقًا لأحكام الدستور).
تضمنت هذه الفقرة مهام متعددة لرئيس الدولة غير العمل على تأكيد حق الدولة في احتكار حمل السلاح، كضبط الحدود ومحاربة الإرهاب ومنع التهريب، وحفظ وحدة الأراضي اللبنانية، ومنع اعتداءات الجيش الإسرائيلي عليها، من تلك المهام التي لم يتحقّق على أرض الواقع أي منها، فلم تُضبط الحدود، ولم يحافظ الجيش على وحدة الأراضي اللبنانية، ولم يُمنع الاعتداء عليها وهي تُنتهك يوميًّا من جانب الكيان الصهيوني دون أي ردّ على تلك الانتهاكات!
وضمن المهام الواردة في الفقرة السابقة تطبيق القرارات الدولية واحترام اتّفاق الهدنة، وهذه المهام هي التي احترمتها الحكومة اللبنانية، فهي تسعى جاهدة ومن طرف واحد لتطبيق القرارات الدولية، وهي تحترم -بكل معنى الكلمة- اتّفاق الهدنة، رغم أن هذا الاحترام متبادل من حَيثُ الأصل، ومرتبط بمدى احترام الكيان الصهيوني للاتّفاق والالتزام ببنوده.
لكن الحكومة اللبنانية -رغم الانتهاكات المتكرّرة اليومية من جانب الكيان الصهيوني للاتّفاق- فهي مصرّة على احترامه من جانبها فقط، رغم أن الاتّفاق يُخوّلها حق الدفاع عن النفس في حال تعرض أراضيها للعدوان من جانب الطرف الآخر في الاتّفاق!
ومع ذلك لم تحَرّك الحكومة اللبنانية ساكنًا تجاه العدوان المتكرّر من جانب الكيان الصهيوني، ورغم أن الفقرة السابقة قد تم اختتامها بعبارة (… جيش لديه عقيدة قتالية دفاعية يحمي الشعب ويخوض الحروب وفقًا لأحكام الدستور) غير أن الواقع يؤكّـد أن الجيش اللبناني لا يملك أي عقيدة قتالية، لا دفاعية ولا هجومية، لخوض الحروب لا وفق الدستور ولا وفق الحق الطبيعي الفطري في الدفاع عن النفس.
فقد سقط في الغارات الصهيونية عدد من أفراد الجيش اللبناني، الذي لم يردّ على العدوان ومصدر النيران ولو برصاصة واحدة، فأين هي عقيدة هذا الجيش القتالية؟ وأنّى له أن يخوض الحروب وأفراده يتساقطون ضحايا بفعل القصف الصهيوني؟! وكأن هذا الجيش منزوع السلاح، ومنزوع الحق في الدفاع عن النفس، ناهيك عن الدفاع عن الوطن والمواطنين!
وتُعد من أهم الفقرات التي وردت في ما يسمى بخطاب القسم، والتي انتهكتها الحكومة اللبنانية بشكل سافر في استخدامها لها كذريعة لقرارها القاضي بنزع سلاح حزب الله، نصُّ هذه الفقرة:
(… عهدي أن أدعو إلى مناقشة سياسة دفاعية متكاملة كجزء من استراتيجية أمن وطني على المستويات الدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية بما يمكن الدولة اللبنانية، أكرّر الدولة اللبنانية، من إزالة الاحتلال الإسرائيلي وردّ عدوانه عن كافة الأراضي اللبنانية…).
ولو لم يكن في ما يسمى بخطاب القسم سوى هذه الفقرة لكفت لتبادر الحكومة ورئيس الدولة بتقديم الاستقالة والاعتذار إلى الشعب اللبناني عن العجز المفرط عن حماية لبنان أرضًا وإنسانا، وعدم القدرة على مواجهة الاحتلال الصهيوني، وردّ عدوانه وإنهاء احتلاله لجزء من الأراضي اللبنانية.
وعن مسألة حصر السلاح بيد الدولة اللبنانية، فالواضح أن هناك حلقةً مفقودة لدى الحكومة اللبنانية والرئاسة في تحديد مفهوم الدولة، وفي مدى اعتبار الشعب ركنًا أَسَاسيًّا من أركانها، وبوصف الشعب الركن العاقل من أركان الدولة فإليه تنصرف جميع الالتزامات والحقوق، سواء تعلقت بالدفاع أَو بالسيادة والاستقلال أَو بغير ذلك مما يمكن أن تثيره العلاقات الدولية. ولم تأتِ نظرية سيادة الشعب من فراغ؛ بل لأَنَّ الشعب -كما هو متعارف عليه- مالك السلطة ومصدرها.
ولدى الحكومة اللبنانية والرئاسة حلقة أُخرى مفقودة متعلقة بمكونات الشعب وعوامل وحدته، وحقه في الإسهام في بناء البلد والدفاع عنه، وكان الأولى بالحكومة اللبنانية والرئاسة -أثناء الحديث عن حصر السلاح بيد الدولة- عدم اتباع ذلك الأُسلُـوب الفَجّ الذي تجسّد في قرار نزع سلاح حزب الله.
وكان الأجدر بالحكومة اللبنانية والرئاسة تبنّي استراتيجية وطنية دفاعية أمنية كما ورد في الفقرة السابقة من الخطاب، تؤدِّي إلى إدماج حزب الله في القوات المسلحة اللبنانية، بوصفه قوة عسكرية مدرَّبة وذات عقيدة قتالية راسخة، والاستفادة من بنيته العسكرية في تعزيز بنية القوات المسلحة النظامية وقدراتها القتالية.
وكان على الحكومة والرئاسة اللبنانية -وهي تبحث في معالجة حقيقية لسلاح حزب الله- على فرض أن الحكومة قد تمكّنت من إزالة الاحتلال الصهيوني، ووضعت حدًّا لعربدته وعدوانه المتكرّر على الأراضي اللبنانية، أن تتجنّب الانسياق وراء المصطلحات العابرة للحدود التي تتضمَّنُ إثارةَ مشاعر فئة واسعة ومهمة من أبناء الشعب اللبناني، وأن تناقش الاستراتيجية الدفاعية الواردة في خطاب القسم مع المكونات اللبنانية، وعلى رأسها حزب الله صاحب الرصيد الجهادي الدفاعي الكبير. وإن لم تناقش الحكومة الاستراتيجية الدفاعية مع المكونات الوطنية، فمع مَن تناقشها؟ وممَّن تتلقى إملاءاتها؟
والواجب على الحكومة ورئيس الدولة الاعتذار للشعب اللبناني عن خيانة العهد والقسم فيما يتعلق ببناء استراتيجية أمن وطني على كافة المستويات من خلال مناقشة سياسة دفاعية متكاملة، وهذه المناقشة لا تكون -كما ذكرنا آنفًا- إلّا مع جميع مكونات الشعب اللبناني، خُصُوصًا الفاعلة منها على أرض الواقع!
وعلى الحكومة اللبنانية ورئيس الدولة الاعتذار للشعب اللبناني عن الانتهاك الخطير لمضمون خطاب القسم، وبيان الحكومة، والوفاق الوطني، وإدخَال لبنان بقرار نزع سلاح حزب الله في حالة فوضى مبتدؤها معلوم ومنتهاها مجهول!
وعلى الحكومة اللبنانية -في اعتذارها للشعب اللبناني- الإقرار بأن قرارها بنزع سلاح حزب الله لم يكن لتحقيق المصلحة الوطنية العليا، ولم يكن تنفيذًا لخطاب القسم للرئيس أمام مجلس النواب، وإنما كان تنفيذًا لخطاب راعي الغنم الأمريكي توم براك، الذي تعامل مع السلطة السياسية في لبنان -حكومةً ورئاسةَ دولة- تعاملَ راعي الغنم مع غنمه، عندما يهشّ عليها ليوجّهها قسرًا بالاتّجاه الذي يريد، ولا تملك إلّا الانصياع له!