تحولات المشهد الانفصالي في محافظة حضرموت
البيضاء نت | تقرير أنس القاضي
تشهد محافظة حضرموت تحولات متسارعة جعلت منها ساحة مركزية للتنافس الإقليمي بين السعودية والإمارات على التوسع في المحافظة، في مسارات تتقاطع مع المشاريع الأمريكية الصهيونية. تأتي هذه التحولات في ظل الانقسام بين قوى العدوان، ووجود أكثر من جهة في حضرموت ترفع مشروعاً خاصاً ومرتبطة بمحور إقليمي. وتمتلك المحافظة موقعاً استراتيجياً يربط الخليج ببحر العرب، وتضم أكثر من ثلث مساحة اليمن وأكبر احتياطي من النفط، ما جعلها محوراً لمشاريع النفوذ الخليجي الأمريكي التي تتستر بشعارات “الحكم الذاتي” و”التمكين المحلي”.
ملامح الأزمة ومظاهر الانقسام
تُعدّ محافظة حضرموت اليوم إحدى أكثر المحافظات اليمنية حساسية من حيث موقعها الجيوسياسي وثرواتها النفطية، إذ تغطي أكثر من ثلث مساحة البلاد، وتضم النسبة الأكبر من احتياطيات النفط والموانئ البحرية الحيوية على بحر العرب. وبذلك، تحوّلت المحافظة إلى مركزٍ متقدّم في سباق النفوذ بين القوى الإقليمية، ولا سيّما السعودية والإمارات، في سياق إعادة تشكيل خريطة السلطة في شرق اليمن.
في هذا الإطار، جاءت زيارة مكتب المبعوث الأممي إلى حضرموت أواخر الشهر الماضي ضمن جولاته المعتادة للقاء القوى السياسية المحلية ومناقشة رؤيتها للسلام، بعد زيارات مماثلة لمحافظات المهرة وتعز. غير أن هذه الزيارة كانت مختلفة في مضمونها ودلالاتها، إذ كشفت -بوضوح- حجم الانقسام الداخلي الحاد الذي تعيشه المحافظة نتيجة الاستقطابات الإقليمية المتزايدة.
خلال اللقاءات التي جرت مع القوى المحلية، برزت ثلاثة مواقف رئيسية متعارضة تعبّر عن خريطة النفوذ الخارجي الراهن:
- “حلف قبائل حضرموت” المدعوم سعودياً دعا إلى نظام حكم ذاتي بوصفه خياراً وطنياً لاستعادة الهوية والسيادة المحلية، وهو طرح يتقاطع مع الرؤية السعودية الهادفة إلى إنشاء نموذج إداري خاص يخدم مصالحها في الشرق اليمني.
- “المجلس الانتقالي الجنوبي” المدعوم إماراتياً أعاد التأكيد على مشروع الانفصال ضمن “دولة فدرالية جنوبية” تتيح لحضرموت أن تكون إقليماً فيها، بما ينسجم مع مخططات أبوظبي لإعادة هندسة الجنوب سياسياً واقتصادياً وفق مصالحها البحرية.
- محافظ حضرموت المعيّن من العليمي وحكومة الفنادق مبخوت بن ماضي تبنّى موقفاً يدعو إلى تمثيل المحافظة في أي تسوية سياسية قادمة في إطار رؤية “اليمن الاتحادي” من ستة أقاليم، في تعبير عن نزعة حضرمية انعزالية تميل إلى رفض الارتباط بكلٍّ من صنعاء وعدن معاً.
أظهرت هذه المواقف الثلاثة أن المحافظة أصبحت مسرحاً لتزاحم مشاريع النفوذ الأجنبية التي توظف خطاب “الهوية الحضرمية” لتثبيت مكاسب سياسية واقتصادية على الأرض، في ظل تراجع حضور الدولة المركزية وتنامي دور القوى القبلية والمكونات العسكرية الموالية لتحالف العدوان.
هناك مساعٍ تركية عبر الإخوان في حضرموت ضمن ما يسمى “تكتل التحرير والتغيير”، هذه هي القوة الثالثة، لكن تأثيرها حتى الآن محدود مقارنة بالقوى السابقة الموالية لكل من الإمارات والسعودية.
التحولات في ميزان القوى الداخلية
يُشكّل “حلف قبائل حضرموت” أبرز المتغيرات البنيوية في المشهد المحلي خلال السنوات الأخيرة. فبعد أن أُسّس في يوليو 2013م كإطار قبلي احتجاجي، أعاد الحلف منذ عام 2024م بناء نفسه كقوة سياسية وعسكرية منظّمة، مدعومة سعودياً، تتبنى مشروع “الاستقلال الإداري والسيادي للمحافظة”.
أثمر هذا التحول عن بناء جهاز عسكري موازٍ بدم سعودي مباشر تحت مسمى “قوات حماية حضرموت”، بلغ قوامها نحو 35 ألف مقاتل موزعين بين الهضبة النفطية والمناطق الساحلية، وتُطور قدراتها عبر دعم لوجستي وتمويل سعودي مباشر، في محاولة واضحة لموازنة نفوذ الإمارات ووكلائها في “المجلس الانتقالي الجنوبي”.
في المقابل، تراجع نفوذ المجلس الانتقالي في المكلا والشحر بفعل الحضور القبلي المتصاعد، ما أوجد انقساماً عمودياً بين مشروعين متنازعين، مشروع “الهوية الحضرمية المستقلة” الذي تتبنّاه القوى المقرّبة من السعودية، ومشروع “الهوية الجنوبية الموحدة” الذي تروّج له أبوظبي عبر “المجلس الانتقالي”.
أدى هذا الانقسام إلى عسكرة الحياة السياسية في المحافظة، إذ بات لكلّ طرف قواته ونقاطه الأمنية وولاءاته المحلية، الأمر الذي أنتج وضعاً يشبه “الفدرالية الميدانية” التي تُكرّس الانقسام الفعلي للسلطة، وتُضعف النسيج الاجتماعي الحضرمي.
أبعاد التنافس السعودي الإماراتي
الصراع الظاهر بين الرياض وأبوظبي في حضرموت صراع على الموارد والممرات البحرية أكثر من كونه خلافاً سياسياً عابراً، إذ تحاول كلٌّ من الدولتين ترسيخ نفوذها من خلال مشاريع متداخلة الأهداف:
المشروع السعودي:
يرتكز على استراتيجية القضم البطيئ والتغلغل الناعم التي تسعى من خلالها المملكة إلى بسط نفوذها عبر دعم الحلف القبلي، وتمويل مشاريع خدمية وتنموية ظاهرها تنمية محلية وباطنها تأمين منفذٍ استراتيجي إلى بحر العرب يخفف اعتماد السعودية على الممرات التقليدية في البحر الأحمر ومضيق هرمز.
كما تعمل الرياض على ربط حضرموت بالمصالح السعودية الاقتصادية من خلال استثمارات الطاقة والبنية التحتية، بما يتيح لها التحكم في جزء كبير من صادرات النفط اليمني المستقبلية.
المشروع الإماراتي:
يتركّز على تعزيز السيطرة على الموانئ والساحل الجنوبي الشرقي (المكلا، الشحر، الضبة) عبر “قوات النخبة الحضرمية” الموالية لها، وربط تلك الموانئ بشبكة لوجستية تمتد من عدن وسقطرى إلى القرن الإفريقي.
ويُعد هذا المسار جزءاً من رؤية الإمارات لتأسيس نفوذ بحري متصل عبر البحر العربي والبحر الأحمر يخدم مصالحها التجارية والعسكرية مع الكيان الصهيوني، ويؤمّن حضورها في ممرات الطاقة الدولية.
أدّى هذا التنافس إلى حالة من الازدواج الميداني في القرار السياسي والعسكري في المحافظة، حيث تمارس السعودية سيطرة شبه كاملة على مناطق الوادي الغنية بالنفط، بينما تُحكم الإمارات قبضتها على الساحل والموانئ. هذا التداخل خلق “نظاماً مزدوجاً للسلطة” يعمّق الانقسام الجغرافي، ويفرض واقعاً من التبعية السياسية والاقتصادية.
الانعكاسات المحلية والاجتماعية
انعكس التنافس الخليجي بشكل مباشر على المشهد الداخلي في حضرموت، فأضعف المؤسسات الرسمية، وأفرغ السلطات المحلية من مضمونها الإداري.
تعددت القوى العسكرية (قوات الحلف، قوات النخبة الحضرمية، قوات درع الوطن التابعة للعليمي والسعودية في آن)، ما أدى إلى انعدام وحدة القرار الأمني، وخلق بيئة قابلة للاشتعال عند أي توتر سياسي أو قبلي.
اقتصادياً، تسبب ايقاف صنعاء نهب صادرات النفط، وتنازع مراكز القرار من المرتزقة في تراجع الإيرادات العامة، وتفاقم أزمة الخدمات الأساسية كالكهرباء والوقود والمياه، ما زاد من السخط الشعبي تجاه “السلطات المحلية القائمة” التابعة لأطراف العدوان، وولّد شعوراً متنامياً باللاجدوى من كل المشاريع المفروضة من الخارج.
كما برزت داخل المجتمع الحضرمي نزعة هوية مزدوجة؛ بين من يرى في الحكم الذاتي وسيلة لتحسين الإدارة المحلية، ومن يخشى أن يكون مجرد غطاء لتفتيت اليمن وتقاسم ثرواته بين القوى الأجنبية.
البعد الجيوسياسي والإقليمي
تقع حضرموت اليوم في قلب صراع جيواستراتيجي واسع يمتد من الخليج إلى بحر العرب.
تنطلق طموحات السعودية من رؤية توسعية قديمة ترى حضرموتَ “امتداداً جغرافياً لمجالها الحيوي الشرقي”، وتطمح من خلالها إلى الوصول الدائم إلى بحر العرب، والسيطرة على احتياطيات النفط والغاز في الهضبة، لتأمين منافذ بديلة عن الممرات الأخرى الخاضعة للتهديدات.
يتكامل هذا المحور مع المشروع الصهيوني الأمريكي العسكري -من خلال الإمارات- في المنطقة، إذ تسعى الإمارات إلى ربط الموانئ اليمنية بشبكة لوجستية تمتد من الساحل الجنوبي إلى البحر الأحمر والقرن الإفريقي، في إطار منظومة ملاحية–أمنية تخدم مصالح أبوظبي و”تل أبيب” وواشنطن.
وتُشير معلومات متطابقة إلى مساعٍ أمريكية لإنشاء قاعدة عسكرية في ساحل حضرموت بمنطقة بروم ميفع، وهي منطقة سبق أن زارها السفير الأمريكي خلال الأعوام الماضية، في مؤشر على تزايد البعد الدولي للصراع في المحافظة، وتحولها إلى محور في سباق السيطرة على الممرات البحرية الدولية.
مستقبل قاتم
تُظهر المعطيات الراهنة أن محافظة حضرموت أصبحت نقطة ارتكاز رئيسة في معادلة النفوذ الخليجي داخل اليمن، وأن مشاريع “الحكم الذاتي” و”الفدرالية المحلية” ليست سوى أدوات لإعادة توزيع السيطرة على الثروات والموانئ بين الرياض وأبوظبي.
يتجه الوضع الميداني نحو تقاسم فعلي للنفوذ بين الطرفين: السعودية في الوادي والهضبة النفطية، والإمارات في الساحل والموانئ، في ظلّ غياب أي سلطة وطنية جامعة قادرة على إدارة الموارد أو فرض السيادة.
فيظلّ مستقبل حضرموت مرهوناً بمضي السعودية في خارطة الطريق، واستعادة وحدة اليمن، وفي حال عدم استجابة السعودية للأمر ستتحول حضرموت -تدريجياً- إلى كيان شبه منفصل عن الدولة اليمنية تديره قوى الوكالة الإقليمية، بما يُهدد وحدة اليمن الجغرافية والسياسية، ويفتح الباب أمام مرحلة طويلة من الهيمنة الأجنبية المقنّعة بعباءة “الحكم الذاتي”.