الزكاة بين قدسية الفريضة وضياء الأحداق
البيضاء نت | مقالات
بقلم / أحمد الضبيبي
حين تلتقي عظمة التشريع الإلهي بنبل المقاصد الإنسانية، تفيض الأرض بركات وتزهر الأرواح أملًا؛ فليست الزكاة مُجَـرّد أرقام تُحصى أَو أموال تُجبى، بل هي دفق قدسيّ ينساب في عروق المجتمع ليحيي ما ذبل من كرامته، وهي المشكاة التي تبدد عتمة الحاجة في مآقي المحتاجين.
وفي محراب “بلاد الطعام”، وتحديدًا تحت سقف مستشفى الميثاق، تجلت الزكاة في أبهى صورها؛ ملاذًا آمنًا وترياقًا شافيًا، حَيثُ لم تكتفِ الهيئة العامة للزكاة بتقديم العون، بل أقامت صرحًا من الوفاء، حولت من خلاله أموال الطهارة إلى قناديل تبصر بها أعينٌ طالما كبلها سكون العتمة وحُجب الحرمان.
إنه مشهد تفيض منه موجبات الرحمة، وتتجلى فيه قيم التكافل المؤسّسي في أبهى صورها؛ إذ ترتسم هذه اللوحة الإنسانية كشاهد حي على إرث الوفاء، حَيثُ لم تكن الهيئة العامة للزكاة مُجَـرّد جهة مانحة، بل كانت يدًا حانية تمسح غبار العناء عن أعين طالما أرهقها سواد العتمة.
يبرز هذا المخيم الطبي المجاني لجراحة العيون وإزالة المياه البيضاء كمنارة من منارات البر العظيم؛ حَيثُ تلتقي فطرة الخير بدقة التنظيم، ونرى في الصورة سيمياء الارتياح على وجوه الآباء والأُمهات، وهم يُقادون بزمام الرفق نحو نور الإبصار بعد طول غياب.
إنها لحظة واضحة وبليغة، تذوب فيها المسافات بين المؤسّسة والمجتمع، لتتحول الزكاة من فريضة مالية إلى بلسم جراحي يعيد للأبصار ضياءها وللنفوس أملها.
إن هذا الاصطفاف المهيب، الذي يجمع بين هيبة الكبار وعزيمة الشباب المتطوع، ليس إلا تجسيدًا لمبدأ “الجسد الواحد”؛ فحين تُزال المياه البيضاء عن أعين الضعفاء بجهود الهيئة، فإنما تُزال معها حجب الحرمان، ليرى هؤلاء الكرام واقعهم وقد تحول بفعل التضامن الاجتماعي إلى فجر من الرعاية والكرامة.
هي دعوة لقراءة هذا المشهد بعين البصيرة؛ حَيثُ يغدو مستشفى الميثاق محرابًا للعطاء، وتصبح مديرية بلاد الطعام شاهدًا على أن زكاة الأموال حين توضع في مصارفها الحقة، تتحول إلى قناديل حياة تضيء عتمة العجز.
وما نشهده اليوم ليس مُجَـرّد استجابة طبية وحسب، بل هو تجلٍ عملي لفلسفة الزكاة التي تتجاوز مفهوم الجباية لتستقر في مقام الرعاية.
تخرج الزكاة هنا من كونها رقمًا ماليًّا، لتصبح دفقًا وجوديًّا، ينساب في عروق الفئات الأشد احتياجًا، محولة أوجاعهم إلى استقرار، وحلكة أيامهم إلى إشراق.
إنها العدالة الإلهية حين تصافح كفوف المحتاجين، فتستحيل تلك الأموال بلسمًا طهورًا يغسل عناء السنين ويرمم ما أفسده الدهر في أحداق المتعبين.
وعلى أعتاب هذا المحراب الطبي، تتبدى الزكاة كأعظم نظام للتوازن الاجتماعي عرفته البشرية؛ فهي لا تطهر الأموال فحسب، بل تزكي الأرواح وتصون كرامة الإنسان من ذلّ العوز.
إن توجيه بُوصلة الزكاة نحو هذه المخيمات النوعية يمثل استثمارًا في الإنسان، حَيثُ يغدو المصرف الزكوي قنطرةً للعبور من ضيق العجز إلى سعة العافية.
ختامًا، إنها لحظة تتوحد فيها قدسية الفريضة مع نبل الغاية، لتثبت الهيئة العامة للزكاة أن الوفاء للمجتمع هو أسمى آيات الشكر للنعم، وهذا الحراك الإنساني يعيد صياغة مفهوم التكافل بمداد من النور؛ فالزكاة لم تعد حبيسة الصناديق، بل غدت مشكاةً تضيء دروب المستضعفين، وقوة عظيمة تكسر قيود الحرمان لتضمن للفقير حقه في رؤية وجه الحياة مشرقًا بضياء الكرامة.