تقزُّم الدول
البيضاء نت | مقالات
بقلم / د. عبدالرحمن المختار
مجتمعُ الدول المسمّى المجتمع الدولي، الذي على رأسه منظمة الأمم المتحدة، لا يختلفُ من حَيثُ الأصل عن أي مجتمع محلي مكوّن من فئات متعددة، تغلب فيه عادة القيم الإنسانية والأخلاقية، ناهيك بأن يكون هذا المجتمع ملتزمًا بقيم دينية محدّدة. وفي ظل هذا المجتمع، لا يمكن تصوّر حالة تسود فيها عصابات الإجرام أَو مافيا المخدرات وغيرها من الظواهر الاجتماعية السيئة؛ إذ تحكم العلاقات السائدة في المجتمع قوانين وأعراف يؤدّي تجاوزها إلى إنزال العقوبات المحدّدة على مقترفها.
وحتى وإن ضعفت أجهزةُ الضبط في المجتمع أَو لم تتواجد أثناءَ مخالفة قيمه؛ فلا يُتصوّر أن يقف الأفراد العاديون مكتوفي الأيدي في مواجهة المخالفين.
وذاتُ الأمر ينطبقُ على مجتمع الدول؛ فهذا المجتمع محكوم من حَيثُ الأصل بقواعد قانونية مكتوبة، وأُخرى عرفية، يترتب على مخالفتها معاقبة الدولة المخالفة، إمّا بشكل جماعي من جانب منظمة الأمم المتحدة، وإمّا بشكلٍ فردي من جانب بعض الدول، من خلال الاحتجاج والإدانة ووقف التعاملات الاقتصادية وقطع العلاقات الدبلوماسية. وسلوك بعض الدول يمكن تشبيهه بسلوك بعض الفئات الراقية في المجتمع المحلي، التي قد تقاطع مرتكب الأفعال المسيئة وتزدريه إذَا ما كان فعله يمثل سلوكًا سيئًا لا ينسجم مع السلوك السوي، أمّا إذَا كان ذلك السلوك يرتّب ضررًا على الغير أَو يمثل جريمة؛ فَــإنَّ هذه الفئات الاجتماعية تبادر إلى وقف ذلك السلوك الضار أَو منع فاعله من ارتكاب الجريمة وتسليمه للجهة المختصة.
وحين تقومُ الفئاتُ المحلية الراقية بمثل هذا التصرُّف في المجتمع بحق المسيء، إنما يكون ذلك بدافع الغيرة على قيم المجتمع، وحماية لها وللمتضرر، وليس بدافع التعصّب الأعمى لأسباب تتعلق بالقرابة أَو المصلحة أَو لأي سبب آخر لا علاقة له بقيم المجتمع.
وذات الأمر ينطبق على تصرف الدول، فمن حَيثُ الأصل لا بد أن يكون تصرّفها في مواجهة الدولة المسيئة لقيم المجتمع الإنساني بدافع حماية تلك القيم، وليس لمُجَـرّد الانتقام أَو لمُجَـرّد حماية مصلحة خَاصَّة؛ فحماية القيم العامة ينتج عنها حماية تلقائية للمصالح الخَاصَّة للدول؛ إذ الأصل أن قيم المجتمع محترمة ولا تجرؤ أية دولة على المساس بها.
ذلك هو الأصل الذي ورد تجسيده في ديباجة ميثاق الأمم المتحدة بنصّه على: “نحن شعوب الأمم المتحدة وقد آلينا على أنفسنا أن ننقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحرب التي في خلال جيل واحد جلبت على الإنسانية مرتين أحزانًا يعجز عنها الوصف، وأن نؤكّـد من جديد إيماننا بالحقوق الأَسَاسية للإنسان وبكرامة الفرد وقدره وبما للرجال والنساء والأمم كبيرها وصغيرها من حقوق متساوية، وأن نبيّن الأحوال التي يمكن في ظلها تحقيق العدالة واحترام الالتزامات الناشئة عن المعاهدات وغيرها من مصادر القانون الدولي، وأن ندفع بالرقي الاجتماعي قدمًا، وأن نرفع مستوى الحياة في جوٍّ من الحرية أفسح”.
والمؤسف أن هذه القيم الإنسانية لا تعدو في الوقت الراهن أن تكون مُجَـرّد حبر على ورق؛ فالأمم المتحدة، التي تمثل جميع الدول الأعضاء فيها، تقف اليوم عاجزة متقزّمة أمام ما سبق لها أن تباكت عليه في ديباجة ميثاقها من أحزان يعجز عنها الواصف. تلك الأحزان الموصوفة في تباكي المنظمة الدولية لا ترقى إلى مستوى أحزان واقع غزة التي لا تحتاج إلى وصف، كونها موصوفة ومشاهدة لمنظمة الأمم المتحدة ولجميع الدول الأعضاء فيها.
لم تتحَرّك المنظمة الدولية، التي سبق لها أن أقرت بالحقوق الأَسَاسية للإنسان وبكرامة الفرد، وأمام ناظريها يُنتهك في قطاع غزة أسمى حق من حقوق الإنسان وهو الحق في الحياة، وتنتهك كرامة الفرد أيما انتهاك: أطفال ونساء ورجال، وما زالت المنظمة الدولية تزيّن ميثاقها بتلك القيم الإنسانية النظرية الراقية، أما على أرض الواقع فلا قيمة ولا كرامة للإنسان، ولا قيم لمنظمة الأمم.
ومع أن الميثاق ينص في المادة (2) منه على أن: “تعمل الهيئة وأعضاؤها في سعيها وراء المقاصد المذكورة في المادة الأولى وفقًا للمبادئ الآتية (…) (5) على أن يقدّم جميع الأعضاء كُـلّ ما في وسعهم من عون إلى الأمم المتحدة في أي عمل تتخذه وفق هذا الميثاق، كما يمتنعون عن مساعدة أية دولة تتخذ الأمم المتحدة إزاءها عملًا من أعمال المنع أَو القمع”.
فلم تقتصر حالةُ التقزّم على منظمة الأمم المتحدة، لتقف عاجزة عن تجسيد المبادئ والقيم الإنسانية التي تضمنها ميثاقها، بل إن حالة التقزّم شملت أغلب الدول الأعضاء في المنظمة الدولية، سواء تلك المتمتعة بالعضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي والموسومة بأنها دول عظمى، أَو غيرها من الدول ذات العضوية العادية في منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. فجميع هذه الدول متقزمة تمامًا أمام ما تضمنه الميثاق من قيم إنسانية راقية، ساهمت في صياغتها أَو وافقت عليها حال انضمامها إلى عُضوية المنظمة الدولية.
والحالةُ القائمة اليومَ هي تقزُّمُ دول العالم أمام القيم الإنسانية والأخلاقية النظرية التي تضمَّنها الميثاق، في مواجهة حالة التفلُّت والتغوُّل والتوحُّش القائمة على أرض الواقع في قطاع غزة.
وبدلًا عن التزام جميع الدول بتقديم العون للمنظمة الدولية كما ورد في النص السابق، في ما تتخذه من إجراءات، والامتناع عن تقديم المساعدة للدولة المنتهكة لأحكام الميثاق، نجد أن العكس هو الحاصل تمامًا. فأشد الدول تقزّمًا هي تلك الدول الغربية التي صاغت المبادئ والقيم الإنسانية الواردة في ميثاق الأمم المتحدة، فهذه الدول شريك فعلي فيما تتعرض له الإنسانية من إجرام وتوحش وإبادة جماعية في قطاع غزة.
وشملت حالة التقزّم أغلب دول العالم، وتحديدًا ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي، كما هو حال الصين وروسيا، اللتين تحوّلتا إلى مُجَـرّد مطالب للكيان الصهيوني بإدخَال المساعدات، وكأنهما غير ملزمتين بواجبات قانونية وأخلاقية وإنسانية. ولولا حالة التقزّم لأمكنهما منفردتين أن تتدخلا إنسانيًّا وأخلاقيًّا وتفرضا على الكيان الصهيوني وقف أفعال جريمة الإبادة الجماعية. وقد سبق لدول غربية دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي أن تدخلت عسكريًّا دون تفويض من المجلس، كما هو الحال بالنسبة للتدخل الأمريكي في العراق وأفغانستان، ذلك التدخل الذي لم يكن له علاقة واقعية بالجوانب الأخلاقية والإنسانية، حَيثُ كانت دوافعه ذاتية مصلحية بحتة.
كما تدخلت في بلدان أُخرى وأسقطت حكّامًا ونصّبت آخرين، خلافًا لما ورد من مبادئ في ميثاق المنظمة الدولية تحرّم مثل ذلك التدخل، حَيثُ نصّت الفقرة (7) من المادة (2) من الميثاق على: “ليس في هذا الميثاق ما يسوّغ للأمم المتحدة أن تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما، وليس فيه ما يقتضي الأعضاء أن يعرضوا مثل هذه المسائل لأن تُحلّ بحكم هذا الميثاق، على أن هذا المبدأ لا يخلّ بتطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل السابع”.
وذلك تجسيد آخر لتقزّم القوى الاستعمارية الغربية أمام القيم الإنسانية والأخلاقية، صمتت في مواجهته الدول الأعضاء في المنظمة الدولية، كما صمتت اليوم أمام ما يجري بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قطاع غزة من إبادة جماعية.
أما عن تقزّم الدول العربية فقد وصل بها حَــدّ التلاشي، فلم تعد موجودة على خارطة الإنسانية إلا عبارة عن مسمّيات، أما حقيقة فلا وجود لها اليوم أمام مأساة غزة. وقد سبق لدول عربية أن تقزّمت حَــدَّ التلاشي حين أعلنت اشتراكها في تحالف دولي لشن حرب عدوانية على يمن الإيمان والحكمة، ذلك العدوان الذي لم يكن تجسيدًا لقوة أَو منعًا، بقدر ما كان تجسيدًا لحالة التقزّم والتلاشي للدول الشريكة في الحرب العدوانية. فثقل ووزن الدول يُقاس بمدى ما تحمله من قيم أخلاقية وإنسانية، وليس بما تقترفه من أفعال عدوانية.