قصف المشافي: عنوان لوحشية الكيان الإسرائيلي

البيضاء نت | تقرير

 

تحت وطأة عدوانٍ صهيو-أمريكيٍّ منهجيٍّ ومُتعمّد، تنهارُ المنظومة الصحية في قطاع غزة، كرُكنٍ أساسيٍّ في جريمةِ إبادةٍ مُنظَّمة ومُوثّقة بالدم والدمار على مدار عامين كاملين. إنَّ المشهدَ المروّعَ لتدمير صروح الشفاء وتحويلها إلى مقابر جماعية وخرائبَ شاهدةٍ، يؤكد  أن العدو الإسرائيلي لم يقدم على هذا الفعل بغفلةٍ أو خطأ، بل تعمّدْ النظر إلى المستشفيات على أنها هدفٌ عسكريٌّ “مشروعٌ”، كانعكاس لوحشيته وتجرده عن القيم والمبادئ والأخلاق . ويأتي ضمن المخططِ الصهيو-أمريكيّ الشامل لـ التهجير القسري وتصفية الوجود الفلسطيني في أرضه.

 

وفي سياق استراتيجية الإجبار القسري وتدمير كل مقوّمات الحياة التي ينفّذها العدو الإسرائيلي، خرجَ ثلثا المستشفيات الـ 35 في القطاع عن الخدمة، بما فيها الـ 18 مستشفى التي كانت تخدم مدينة غزة وحدها، في تناقصٍ مأساويٍّ وصلَ إلى ( مستشفى لكل 100 ألف نسمة)، ومنها الصروح الحكومية وتلك التي تديرها مؤسسات غير حكومية (كالمستشفى المعمداني)، في انعكاس لاستراتيجية حربٍ ترتكز على إزالةِ أيِّ مقوّمٍ للصمود أو البقاءٍ.

وفيما يتكشَّفُ المشهدُ عن استهدافٍ دمويٍّ ومباشرٍ يُؤكّدُ العزم على شلِّ الحركة الطبية وإغراق القطاع في مأساةٍ صحيةٍ لا يمكن التعافي منها طالما بقيَ هذا العدوان جاثمًا، تُقدِّمُ الإحصاءاتُ الأولية -التي وثّقها المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان حول جريمة الإبادة الجماعية- معطياتٍ صادمةً تُثبتُ أنَّ آثار الجريمة لم تستثنِ أحدًا: فقد وثَّقتْ الأرقامُ استشهاد وإصابة نحو 1,701 من أبطال المجال الصحي، بينهم 194 طبيبًا و376 ممرضًا، بالإضافة إلى إصابة نحو 2,195 آخرين.

وأفادت معطيات للمكتب الإعلامي الحكومي بأن العدو الإسرائيلي اعتقل على مدار عامين من الإبادة الجماعية 362 من الطواقم الطبية، من بينهم 88 طبيبا، و132 ممرضا، و72 مساعدا طبيا، و47 من الموظفين الإداريين في القطاع الصحي، مؤكداً “ما زال ما يزيد عن 130 من أفراد تلك الكوادر يقبعون في سجون العدو، رغم اتفاق وقف إطلاق النار”.

من المعمداني إلى ناصر: وثائق الجريمة الصهيونية

إن سجل اعتداءات العدو الإسرائيلي على المؤسسات الطبية هو سجل مُلطّخ بدماء الأبرياء، ويُقدم وثائق إدانة لا تُدحض للطابع العدواني لهذا الكيان، ووفقا لبيانات وزارة الصحة الفلسطينية ووسائل الإعلام الفلسطينية، أقدم العدو على الاعتداء على المستشفى المعمداني، في حي الزيتون، مسجلاً في 17 أكتوبر 2023، أفظع مجزرة في ساحة مستشفى المعمداني الأهلي، والذي كان يستقبل في حينها مئات النازحين المدنيين ومئات آخرين من المرضى والجرحى وغيرهم. كانت الضربة الجوية الإسرائيليّة قوية جدًا.

من فظاعة المذبحة، حاولت سيارات الإسعاف التعامل مع الضحايا الذين مازالوا على قيدِ الحياة، تاركةً الجثث ملقاة في جميعِ الأماكن لعدم قدرة الإسعاف الفلسطيني على التعامل مع كلّ العدد من ضحايا الإجرام الصهيوني، حيث أعلنت وزارة الصحة في غزة -في مؤتمر صحفي في المستشفى من بين جثامين الشهداء- عن استشهاد أكثر من 500 مدنيٍّ فلسطيني، وأظهر مقطع فيديو (انتشرَ على وسائل التواصل الاجتماعي وبثته قنوات عربية ودوليّة) حجم الغارة التي طالت المشفى، وما أعقبها من انفجار ضخم هزّ كامل المناطق المحيطة بموقع الضربة، فضلًا عن ألسنة اللهب التي لم تهدأ.

وبعد 18 شهراً من المذبحة الأولى، عاد العدو الإسرائيلي ليقصف مبنى الاستقبال والطوارئ بصاروخين، ما أخرج المستشفى عن الخدمة بالكامل، ليُجبر المرضى والجرحى على افتراش الشوارع، ما يكشف عن الإصرار الصهيوني على محو أي أثر للخدمات الإنسانية.

لم يكن مجمع الشفاء الطبي في غزة، الذي يُعدّ أكبر صرح طبي حكومي في الشمال، بمعزل عن قبضة العدوان الصهيو-أمريكي، بل تحوّل قسراً إلى ساحة حرب مكشوفة، ومركز لجريمة موثقة. هذا الصرح التاريخي، الذي كان يستقبل أضعاف طاقته السريرية، بدأ تدميره المنهجي باقتحام صريح من قبل جيش العدو الإسرائيلي في 9 أكتوبر 2023، أي في اليوم الثالث من العدوان على غزة ، حيث استهدفت طائرات العدو  محيط المجمع، وألحقت أضراراً بقسم الحضانة لحديثي الولادة، في تجل للغطرسة الصهيونية.

وقد كشفت تقارير صادمة، منها إفادة وكيل وزارة الصحة في قطاع غزة يوسف أبو الريش، عن دفن 179 ضحية، بينهم عشرات الأطفال والنساء و40 من مرضى العناية المركزة والأطفال الخدج، في قبر جماعي بحديقة المستشفى. لم يتوقف الإجرام عند القتل؛ فبسبب الحصار الغاشم، أعلن مدير المستشفى في 17 نوفمبر 2023 عن وفاة كل المرضى في قسم العناية المركزة، وهو ما يرقى إلى مستوى الإعدام البطيء وبدم بارد. ولم يسلم الكادر الطبي من بطش العدو، حيث اعتقلت قوة صهيونية مدير المجمع محمد أبو سلمية واقتادته للتحقيق في 23 نوفمبر 2023. وقد أكدت منظمة الصحة العالمية لاحقاً في 17 ديسمبر 2023 أن قسم الطوارئ تحوّل إلى “حمام دم” بفعل القصف الصهيوني.

وفي ذروة التدمير، وتحديداً في 1 إبريل 2024، انسحب العدو الإسرائيلي من المجمع بعد أن خلّف دماراً هائلاً وأحرق مبانيه، لتنتشل الطواقم المدنية جثث أكثر من 300 فلسطيني، بعضها متحللة ومكبلة، من داخل المجمع ومحيطه، في دليل لا يقبل الشك على ارتكاب جرائم حرب واضحة.

وكجزء لا يتجزأ من مخطط الإبادة الجماعية، أشارت المعطيات الميدانية الموثقة إلى تصاعد الهجوم على مجمع ناصر الطبي منذ ديسمبر 2023 وصولاً إلى الاقتحام والتدمير المباشر لمباني الجراحة والطوارئ بقصف دبابات العدو في 23 يناير 2024، وإطلاق النار داخل المجمع في 10 فبراير 2024، وتحوّل المجمع الطبي من ملاذ آمن إلى ساحة مُستباحة لنيران جيش العدو ، وإلى “ساحة قتال” (في 16 و21 فبراير 2024)، والذي أدى إلى وفاة مرضى بشكل فاجع بسبب الحرمان المتعمد  من الأكسجين.

استهداف المراكز الحيوية

لم يقتصر التدمير على المستشفيات الكبرى، بل طال المراكز المتخصصة والحيوية، في إظهار لعمق الإجرام، حيث أقدم العدو الصهيوني على إخراج مستشفى الصداقة بغزة (المستشفى الوحيد لعلاج مرضى السرطان) عن الخدمة في نوفمبر 2023 جراء الغارات، ليترك 13 ألف مريض بالسرطان يواجهون الموت البطيء دون أدنى رعاية.

كما دمر جيش العدو مستشفى الرنتيسي للأطفال (غزة)، بما في ذلك قسم غسيل الكلى بالكامل، ما أدى إلى توقف الخدمة ووفاة العديد من الأطفال، قبل أن يُعاد افتتاحه جزئياً بطاقة استيعابية هزيلة (12 طفلاً فقط) بعد أن كان يخدم 45 طفلاً.

خريطة الإبادة الشاملة تتجلى بوضوح في كافة مستشفيات القطاع، من “كمال عدوان” و”الإندونيسي” في الشمال – اللذين تعرضا للقصف المتكرر، إلى استهداف العدو الإسرائيلي المُباشر لـ”مستشفى الأمل” و”مستشفى الكويت التخصصي” في الجنوب.

في السياق، دقت وزارة الصحة الفلسطينية في غزة، ناقوس الخطر حول مرضى “البتر”، مؤكدة -في تصريحاتٍ صحفية- أنّ قرابة 4900 حالة بتر وإعاقة بحاجة إلى أدوات مساندة وبرامج تأهيل طويلة الأمد. وعلى الرغم من اتفاقيات التهدئة والبروتوكولات الإنسانية، أطلق المتحدث باسم مستشفى شهداء الأقصى، خليل الدقران، صرخةً تُدينُ استهتار العدو الإسرائيلي بحياة الفلسطينيين، مُؤكداً أنَّ الوضع الصحي في غزة “لا يزال مأساويًا”، وأنَّ العدو لم يلتزم بالبروتوكول الإنساني؛ وكشف الدقران عن أنَّ 22 ألف مريض يحتاجون علاجاً عاجلاً في الخارج، بينما تُودي سياساتُ المنع والحصار الصهيو-أمريكية بحياة المرضى بصمت، حيث استشهد ألف مريض سرطان من أصل 13 ألفاً، و41% من مرضى غسيل الكلى بسبب عدم توفر العلاج.

الخلاصة القاطعة:

تؤكد هذه الجرائم المروعة والموثقة  من “المعمداني” إلى “الشفاء” فـ “ناصر” وغيرها، أنَّ ما ارتكبه العدو الإسرائيلي، تحت مظلة الدعم والغطاء الأمريكي الغربي، أتى ضمن مخطط إجرامي مدروس بعناية كجزء من مخطط الإبادة الجماعية التي تستهدف تصفية الوجود الفلسطيني في أرضه عبر تحويل صروح الشفاء إلى مقابر جماعية وخرائب شاهدة. إنَّ النظر إلى المستشفيات على أنها “أهداف عسكرية”، وأسر وقتل الآلاف من أبطال المجال الصحي، وحرمان آلاف مرضى السرطان والكلى والمبتورين من أدنى مقومات الحياة، هو ركيزة أساسية في مخطط التهجير القسري وتدمير كل مقومات الصمود.

إن هذا الإجرام الصهيوني بقدر ما يكشف الطبيعة العدوانية للكيان الصهيوني، هو في ذات الوقت يكشف زيف المنظمات الأممية التي لم تحرك ساكنا أمام هذا الإجرام، مكتفية بإصدار البيانات. الأمر الذي يتطلب إعادة النظر تجاه المؤسسات المعنية بحقوق الإنسان باعتبارها جزء من المؤامرة التي تستهدف الأمة.

نقلاً عن موقع أنصار الله