كواليس إسقاط المسودة البريطانية الأمريكية لتشديد العقوبات على اليمن

البيضاء نت | تقرير أنس القاضي

جاءت معركة تجديد نظام العقوبات على اليمن داخل مجلس الأمن في ظل لحظة دولية معقدة، تتداخل فيها ثلاثة مستويات رئيسية:

  1. ارتدادات حرب غزة والبحر الأحمر، وما رافقها من عمليات يمنية استهدفت الملاحة المرتبطة بالكيان الصهيوني.

  2. تزايد التوتر الاستراتيجي بين الغرب وروسيا والصين خلال هذا العام، وتحول معظم ملفات مجلس الأمن إلى ساحات تنازع بين المحورين.

  3. جمود مسار السلام في اليمن، ومحاولة القوى الغربية إعادة صياغة قواعد الاشتباك عبر بوابة العقوبات بعد فشل العمليات العسكرية  العدوانية ضد اليمن 2023م – 2025م.

ضمن هذا السياق، حاولت كل من بريطانيا والولايات المتحدة الدفع نحو أكبر تعديل في نظام العقوبات منذ 2015م، استجابة لتوصيات مراكز الأبحاث السياسية الغربية والخبراء والعسكريين التي اطلعنا عليها طوال الفترة الماضية، وكان يهدف هذا التوجه إلى هندسة البيئة الأمنية والقانونية-الدولية في البحر الأحمر والحديدة، ويحدّ من تنامي القوة العسكرية للقوات المسلحة اليمنية-صنعاء.

في المقابل، واجهت هذه المحاولة أقوى اعتراض روسي–صيني مشترك في الملف اليمني منذ سنوات، انتهى بإسقاط المسودة وإجبار المجلس على الاكتفاء بتجديد تقني لصيغة العقوبات القديمة (التي يرى الغرب أنها شكلية وغير فاعلة).

تطوّر نظام العقوبات على اليمن (2014م–2025م)

نشأ نظام العقوبات الحالي على اليمن بفعل القرار (2140) الصادر في فبراير 2014م، وهو القرار الذي مثّل إطاراً تأسيسيّاً لتدخل مجلس الأمن في الشأن اليمني تحت ذريعة “حماية العملية السياسية”.

 وقد فرض القرار سلسلة تدابير تشمل تجميد أصول وحظر سفر على من يصنفهم المجلس “معرقلين للعملية الانتقالية”، كما أنشأ “لجنة العقوبات” و”فريق الخبراء” بوصفهما الأداتين الفنيتين المسؤولتين عن التقييم والمتابعة ورفع التوصيات.

 وفي أبريل 2015، جاء القرار (2216) ليشكل نقطة تحوّل مفصلية؛ إذ نقل المنظومة العقابية من مستوى “الأفراد” إلى مستوى “الكيان”، حيث فُرض حظر أسلحة شامل على حركة “أنصار الله”، وقاموا بتصنيفها طرفاً “يهدد الأمن والاستقرار”، كما منح القرار الدول الأعضاء صلاحيات واسعة في تفتيش السفن المتجهة إلى اليمن لضمان تطبيق الحظر، وهو ما جعل القرار الإطار القانوني -بحسب قوانين الأمم المتحدة- الأعمق تأثيراً على مسار الحرب والحصار خلال العقد الأخير من الحرب  العدوانية.

غير أن التطورات اللاحقة أثبتت أن المنظومة العقابية لم تحقق أهدافها المعلنة، وهو ما أظهره بوضوح تقرير فريق الخبراء الصادر في 15 أكتوبر 2025م، الذي غطّى الفترة الممتدة بين أغسطس 2024م ويوليو 2025م. فقد ادعى التقرير أنّ الحظر المفروض على السلاح “غير فعّال إطلاقاً”، وأن “جماعة أنصار الله” استطاعت بناء شبكات معقدة للالتفاف على القيود.

 كما أشار التقرير إلى أن تجميد الأصول كان محدود التأثير ولم يترك أثراً رادعاً. تقدير فريق لجنة الخبراء لم يكن فنياً، وصيغ بطريقة منحازة ضد اليمن خدمة للتوجهات الغربية الصهيونية الخليجية، وبناءً على ذلك -وانسجاماً مع التوجهات الأمريكية البريطانية الصهيونية السعودية الإماراتية الفرنسية- أوصى التقرير -للمرة الأولى منذ العام 2015م- بتوسيع نطاق التفتيش ليشمل أعالي البحار، في خطوة تستند إلى النموذج المستخدم في ليبيا عبر عملية “إيريني” الأوربية. وقد أصبح هذا التقرير -لاحقاً- المبرر الرئيس الذي اعتمدت عليه بريطانيا والولايات المتحدة لتبرير مساعيهما لتوسيع نطاق نظام العقوبات على اليمن، بزعم الحاجة إلى “تصحيح” فشل تنفيذ القرارات السابقة.

من محاولة التشديد إلى الانكماش القسري

بدأت معركة تجديد العقوبات بصورة مبكرة في 6 نوفمبر، عندما قدمت المملكة المتحدة -بصفتها “صاحبة القلم” والمسؤولة عن صياغة نصوص مجلس الأمن المتعلقة باليمن- مسودة أولى تعد الأكبر والأخطر منذ عام 2015م.

 وقد هدفت المسودة إلى إعادة هيكلة نظام العقوبات بالكامل، بحيث لا يقتصر على التجديد الروتيني، بل يتضمن حزمة جديدة من القيود والإجراءات التنفيذية الملزمة. ففي صلب المسودة وردت بنود تفرض -للمرة الأولى- حظراً دولياً مباشراً على بيع أو توريد المكونات ذات الاستخدام المزدوج لصنعاء، وهو نص فضفاض بناءً عليه يمكن إطباق الحصار على المواد الأولية المطلوبة في الصناعات المدنية والطرق والزراعة، بحجة أن هذه المواد يُمكن استخدامها لصناعة “الطائرات المسيّرة والصواريخ”، مع إلزام الدول باتخاذ خطوات واضحة لتعطيل وصول هذه المواد.

إلى جانب ذلك، سعت بريطانيا إلى إدخال تفويض دولي صريح يمكّن الدول الأعضاء -منفردين أو ضمن تحالفات بحرية- من تنفيذ عمليات تفتيش بحري في المياه اليمنية وأعالي البحار وصولاً إلى الخليج العربي، وهو ما كان سيجعل البحر الأحمر ومضيق باب المندب في حكم المناطق الخاضعة لرقابة دولية موسّعة خارج إطار آلية التفتيش الأممية (UNVIM) في جيبوتي، ما يجعل وصول أي سفينة إلى اليمن رهناً بمشيئة التحالف البحري الغربي، والذي سيكون بيده القدرة على فرض الحصار وتأخير وصول السلع لتفجير المجتمع اليمني من الداخل للضغط على  السلطة الوطنية في صنعاء.

ولم تكتفِ المسودة بذلك، بل توسعت في إدراج “أنصارالله- وبالتالي حكومة صنعاء” ضمن شبكة “التهديدات الإرهابية العابرة للحدود”، أي أن التصنيف الفردي الأمريكي لأنصار الله بـ”الإرهاب” سيصبح ملزماً لمختلف دول العالم، عبر ربط الأنصار والسلطة الوطنية في صنعاء بحركة الشباب الصومالية وبجماعات مسلحة تنشط في السودان، مع اتهام الصومال بأنه “مركز عبور أسلحة” إلى اليمن.

وتضمّنت المسودة أيضاً إدانات واسعة لـ”احتجاز 59 موظفاً أممياً”، وأدخلت لأول مرة فكرة تنسيق ثلاثي بين لجان العقوبات الخاصة باليمن والسودان وحركة الشباب، بما يضع اليمن في قلب شبكة أمنية معقدة تتجاوز حدوده الجغرافية، وقد صُممت هذه المسودة بوضوح لخلق نظام عقابي موازٍ للقرار (2216)، وتوسيع أدوات الضغط الغربي ليشمل البحر والبر والفضاء المالي واللوجستي.

مواقف الأطراف الدولية

قوبلت المسودة البريطانية–الأمريكية بمشهد انقسام حاد داخل مجلس الأمن، يعكس -بوضوح- طبيعة اللحظة الدولية؛. فقد لعبت الولايات المتحدة دور “المهندس الثاني” للمسودة، وأصرت على إدراج عقوبات مالية على أنصارالله ككيان (ما يعني حكومة صنعاء ومؤسسات الدولة عموماً)، وهو تطور بالغ الخطورة لو مرّ؛ إذ كانت واشنطن تسعى لاعتبار الحركة مشابهة للمنظمات الإرهابية التي يشملها تجميد للأصول وقيود مالية عالمية.

كما دعمت واشنطن -بقوة- إدخال آلية بحرية على غرار عملية    IRINI التي طبقت في ليبيا، ودفعت باتجاه تضمين بنود تتهم الصين بتوفير مكونات الطائرات المسيّرة لصنعاء، وتوسيع الحديث عن العلاقة مع حركة الشباب، في سياق يبدو جزءاً من مواجهة جيوسياسية مع بكين أكثر من كونه جزءاً من تقييم موضوعي للملف اليمني.

أما بريطانيا، فقد مضت في اتجاه صياغة نص يعكس رؤية فريق الخبراء بالكامل تقريباً، والتي هي في الأصل رؤية منحازة ضد اليمن وليست محايدة أو فنية أو حقوقية كما يُفترض، مستهدفة إعادة  تعديل آليات التفتيش البحرية، وتوسيع نطاق العقوبات بحيث تشمل كل ما يتعلق بالنشاط الاقتصادي في صنعاء، بذريعة الضغط على وزارة الدفاع.

ووقفت فرنسا إلى جانب المسودة، لكنها اعتبرتها غير طموحة، ودعت لاتخاذ إجراءات بحرية أكثر صرامة.

 في المقابل، شكّل الموقف الروسي حجر العثرة الأكبر أمام مشروع التشديد، حيث اعتبرت موسكو أن المسودة “غير متوازنة ومسيسة”، وأنها تمثل محاولة غربية لفرض وصاية بحرية دولية على البحر الأحمر، وتشكل تهديداً لمسار التسوية السياسية.

أما الصين فقد ركزت اعتراضها على ربطها بالمكونات المزدوجة، ووصفت الاتهامات الأمريكية بأنها لا تستند إلى الأساس، وحذرت من أن منح تفويض بحري دولي يمسّ الولاية الحصرية لـ”دولة العلم” (الدولة صاحبة السفينة التي تحمل التجارة إلى موانئ اليمن)، ويقوض حرية الملاحة الدولية، ويفتح الباب لتدخلات عسكرية تحت غطاء “قانوني” مضلِّل.

كسر الصمت وإسقاط النص (12–13 نوفمبر)

بعد تعديل أولي على المسودة، وضعت بريطانيا النص المنقح “تحت الصمت”، وهي آلية استُخدمت لتمرير القرار بسرعة ومنع فتح باب التفاوض مجدداً، إلا أن الصين وروسيا كسرتا الصمت في خطوة نادرة، ما مثّل إعلاناً صريحاً بأن المسودة في صيغتها الجديدة مرفوضة بالكامل.

وقد جاءت الاعتراضات بسبب إبقاء الصيغة البريطانية على لغة تتعلق بـ”عمليات الاعتراض البحري”، واستمرار الإشارة إلى “المكونات ذات الاستخدام المزدوج”، فضلاً عن الصياغات المتعلقة بصلاحيات “دولة العلم” وإدانات تستهدف صنعاء دون غيرها.

 ومع إدراك بريطانيا والولايات المتحدة أن النص لن يمرّ وأن الفيتو أصبح احتمالاً واقعياً، اضطرت لندن إلى التخلي كلياً عن مشروعها والانتقال إلى صيغة “التجديد التقني” دون أي إضافات تنفيذية، تفادياً لمواجهة مفتوحة داخل المجلس.

ما الذي تم إسقاطه من النص؟

أسفرت الضغوط الروسية–الصينية عن إسقاط أهم مكونات مشروع التشديد، حيث جرى إلغاء آلية التفتيش البحري الدولية بالكامل، وحذف أي إشارة إلى عقوبات على المكوّنات ذات الاستخدام المزدوج، وإزالة الربط بين أنصارالله وحركة الشباب، بالإضافة إلى إسقاط آلية التنسيق الثلاثية بين لجان العقوبات في اليمن والسودان والصومال، والتخلي عن الطلب الأمريكي بإدراج أنصارالله ككيان ضمن الفئة الخاضعة لتجميد الأصول، وبذلك انهار جوهر المشروع البريطاني–الأمريكي، وتحوّل إلى نسخة معدّلة أُبقي فيها فقط على العناصر التي لا تثير خلافاً عميقاً داخل المجلس.

ما الذي بقي في القرار النهائي (القرار 2801 – 14 نوفمبر 2025م)

أسفر التوافق الاضطراري عن صدور قرار محدود النطاق يجدد نظام العقوبات لقرار مجلس الأمن رقم (2140) حتى نوفمبر 2026م، ويمدد ولاية فريق الخبراء حتى ديسمبر 2026م، ويكلف الفريق بإعداد تقريرين فنيين حول المكونات ذات الاستخدام المزدوج وآليات تبادل المعلومات البحرية، كما تضمن القرار إدانة لاحتجاز موظفي الأمم المتحدة، لكنه أبقى على القرار 2216 دون أي توسيع أو تعديل، وحافظ على آلية التحقق في جيبوتي (UNVIM) دون استحداث أي تفويض بحري دولي جديد.

لماذا فشلت واشنطن ولندن؟

يمكن تفسير فشل المشروع التشديدي عبر أربع طبقات تحليلية مترابطة، فعلى المستوى الجيوسياسي تخشى روسيا والصين أي تفويض يُستخدم لتوسيع الدور العسكري الأمريكي في منطقة حساسة للملاحة العالمية وللطريق البحري الصيني (البحر الأحمر والعربي).

 وعلى المستوى القانوني، يتعارض التفويض البحري المقترح مع مبادئ القانون الدولي، خصوصاً اتفاقية البحار (UNCLOS) والولاية الحصرية لـ”دولة العلم”، ما يجعل تطبيقه سابقة خطيرة في العلاقات الدولية.

 أما على المستوى السياسي، فإن الربط بين أنصارالله و”الإرهاب” يفتقر إلى الإجماع الدولي، وإلقاء اللوم الكامل على صنعاء في اضطراب الملاحة يمثل قراءة انتقائية تنكر دور الكيان الإسرائيلي والحصار المفروض على غزة.

 وفي المستويين العملياتي واللوجستي، تدرك القوى الدولية أن البيئة البحرية في البحر الأحمر معقدة ومشبعة بالتوترات، وأن تكرار نموذج “إيريني” في ليبيا، قد يخلق صدامات عسكرية يمنية مع قوى إقليمية ودولية.

انعكاسات القرار على الوضع اليمني والإقليمي

يمثل إسقاط المسودة البريطانية–الأمريكية مكسباً استراتيجيا لصنعاء، إذ يمنع تشديد الحصار البحري، ويحمي موانئ الحديدة من تدخلات دولية جديدة، ويعزز مكانة صنعاء السياسية بوصفها طرفاً يحظى بقدرة على مقاومة الضغوط الدولية.

 وعلى مستوى البحر الأحمر، يحافظ القرار على الوضع القانوني القائم، ويمنع إضفاء أي شرعية مزعومة على أي تدخلات بحرية جديدة، ويقوض مساعي التحالف الغربي لفرض آلية تفتيش موسعة.

 أما على مستوى التوازنات الدولية، فقد أثبتت الجولة صلابة المحور الروسي–الصيني، وقدرتهما على تعطيل الخطط الغربية، الأمر الذي يعزز السياق العالمي المتجه نحو تعددية قطبية واضحة التأثير في ملفات “الشرق الأوسط” عامة، والبحر الأحمر خاصة.