تحوُّل موازين القوى من الدفاع إلى الهجوم

البيضاء نت | مقالات

بقلم / محمد نبيل اليوسفي

 

ما بعدَ المواجهاتِ الأخيرةِ في قطاعِ غزّةَ شهدتِ المعادلاتُ الإقليميةُ تحوّلًا استراتيجيًّا، أظهر تغيّرًا ديناميكيًّا ضدّ القوى التقليدية ثم تحويلها لصالح نمطٍ جديد من المواجهة متعددةِ الأبعاد، وقد تجلّت الهزيمة الإسرائيلية ليس فقط على الأرض بل أَيْـضًا في تناقضاتها السياسية والإعلامية.

من ذلك ما أظهر مؤشرًا بالغًا على تأثّر العمق الاستراتيجي للإعلام الإسرائيلي، الذي حينها وجد نفسَه مضطرًّا لترويجِ الادِّعاءاتِ والأكاذيبِ التي أصبحت جليًّا تُكشف بأنها مُجَـرّد خداعاتٍ فشلت في تغليف الرواية الإسرائيلية كتغطيةٍ مستقلة تعمل على تبرير مخطّطاتها التوسّعية في قلب قطاع غزة، ثم محاولات القضاء على المقاومة في اللحظات الحاسمة.

حيث أظهرت هذه المواجهة محدودية تأثير القوة العسكرية التقليدية في مواجهة استراتيجياتٍ غير تقليدية، وفشلت الآلة العسكرية المتطوّرة في تحقيق أهدافها الاستراتيجية، بينما برزت قدرةُ القوى غير التقليدية على تطوير أساليب مواجهة متعدِّدة المستويات تعتمد على مبادئ الاستراتيجية العسكرية الأَسَاسية كتحديد الهدف ووضع خطّة الهجوم.

ثم تمثّلت أهم التأثيرات في اضطراب السلاسل الإمدَادية العالمية عبر الممرات البحرية، وارتفاع التكاليف الاقتصادية للعمليات العسكرية الممتدة، وتداعيات اقتصادية إقليمية متعددة المستويات، في إطار ما يعرف بـ”الحرب الاقتصادية” التي تستهدف الضغطَ على مواردِ الخصم إلى أقصى حَــدّ.

كما شكّلت الحربُ النفسية بعدًا أَسَاسيًّا في هذه المواجهة، حَيثُ تهدف إلى التأثير على العقلية والمعنويات للعدوّ والمجتمع المحلي من خلال الإعلام والتوجيه، وهو ما تجلّى في القدرة على تحطيم صورة “الجيش الذي لا يقهر” التي روّجَ لها كيان الاحتلال لعقودٍ من الزمن.

وعلى الصعيد السياسي شهد المشهد تحوّلاتٍ عميقة تمثلت في أزمة مصداقية الرواية السياسية التقليدية لدى الكيان، وإعادة تشكيل التحالفات الإقليمية، وبروز قوى فاعلة جديدة في المعادلة السياسية، وتغيّر ديناميكيات التفاوض وموازين القوى في المنطقة.

يمكن قراءة هذه المواجهة “الجيوسياسية” عبر استراتيجيات حربية تاريخية مثل استراتيجية “الحصار والاستنزاف” التي تهدف إلى عزل العدوّ وقطع إمدَاداته، و”استخدام الوكلاء والتحالفات”، حَيثُ تعاون طرف إقليمي فعال لتحقيق أهداف مشتركة في المعركة.

وانتقلت المقاومة في عملية التفاوض من موقع المدافع إلى موقع الفاعل، حَيثُ أصبحت تفرض شروطها وتدفع نحو تسويات تكرّس مكاسبها الميدانية، مستفيدةً من تحوّل موازين القوى على الأرض وتآكل الموقف التفاوضي الإسرائيلي.

كما برز تحالفٌ إقليميّ فعال استطاع أن يخلق معادلةَ ردعٍ جديدة، حَيثُ مثّلت الجبهات المساندة عاملًا حاسمًا في تشتيت القوة الإسرائيلية وفرض تكاليف باهظة على اقتصادها وأمنها القومي، مما سبب انتكاسةً كبيرة لم تمنح العدوّ فرصةً لاستعادة أنفاسه.

بل حتى أن نتائج المواجهة الإقليمية إلى جانب المقاومة تسبّبت في أزمة سياسيةٍ ومجتمعية داخل الكيان الإسرائيلي، حَيثُ برزت الانقسامات وكُشِفَ خللٌ إداري بين صُنّاع القرار، ممّا أَدَّى إلى عجزٍ وتخبّطٍ وفقدان الثقة في المؤسّسة العسكرية والأمنية، وتعمّق الأزمة الشرعية الداخلية لدى الكيان الإسرائيلي المدعوم غربيًّا.

حيثُ إن التغطيةَ الإعلاميةَ المباشرةَ والموثّقة ساهمت في تغيّر نظرة العالم للصراع أَيْـضًا، لتعمل على خلق حراكٍ جماهيريّ عالمي شكل ضغوطًا أخلاقيةً وسياسيةً على الحكومات الغربية، وكشفت التناقض بين الخطاب الرسمي والواقع على الأرض.

وكما تشير المعطيات إلى نشوءِ معادلةِ ردعٍ جديدةٍ في المنطقة.. معادلةٍ تعيد تعريف مفهوم القوة في الصراعات الحديثة، حَيثُ أظهرت الأطراف غير التقليدية قدرةً على تحويل التحديات إلى مكاسب استراتيجية، وتطوير نظريات مواجهةٍ متعددة الأبعاد، وإعادة هندسة البيئة الاستراتيجية الإقليمية.

وتؤكّـد هذه التطوُّراتُ أن مرحلةََ الهيمنةِ الأُحادية قد ولى زمانُها، وأن القوةََ أصبحت أكثرَ تعدُّديةً وتوزُّعًا، حَيثُ لم تعد القوة التقليدية وحدها كافية لتحقيق النجاح الاستراتيجي، بل برزت أهميّة الإرادَة والتخطيط والابتكار في أساليب المواجهة كعوامل حاسمةٍ في تحديد وحسم نتائج الصراعات المفصلية والحتمية.

هذه التحولاتُ تستدعي مقاربةً تحليليةً جديدةً ونادرةً تتجاوز النماذج التقليدية لفهم تحوّلات الصراع في القرن الحادي والعشرين، حَيثُ أصبحت الحرب تشمل أبعادًا إعلامية ونفسية وجيواقتصادية تتفوّق أهميتها على البعد العسكري التقليدي.

حيثُ ما يتوجب على الشعوب الحرة والمحور المقاوم، وفي المقدمة المقاومة الفلسطينية، بعد أن فشل الكيان الإسرائيلي في سيطرته على غزة ومن ثم إرغامه على شروط المفاوضات والانسحاب التام وتسليم الأسرى وإدخَال المساعدات إلى القطاع، هو أن لا يغيب عنا هشاشة هذه القوى التقليدية السياسية التي أربكت مراكز صنع القرار المتمثلة باللوبي الصهيوني، وعجزها عن معالجة مشكلتها المركزية، مهما حاول الأعداء تلميع أنفسهم مرة أُخرى بعد أن كشفت همجيتهم العدوانية بحق الأطفال والنساء في غزة.

فما ارتكبه العدوّ الإسرائيلي من جرائم بلغة الدم والألم في قطاع غزة هو ما لا ينساه لا الضمير الإنساني ولا الديني.

جرائم تُدمي القلب وتجعَنّ وتُهزّ الضمير عتابًا على من تخلى عنهم وجعلهم عرضةً لقصف الكيان ليتحوّلوا إلى أشلاء متقطّعة بعضها تحت الركام وبعضها فوق الركام..

مأساةٌ ما لا ترضى إنسانيّةً كشعوبٍ وأمم أحرارًا.

أنت تجعلنا ننساها؟ ويأتي يومٌ من الأيّام وقد تصبح نظرتنا للعدوّ وكأنه لا علاقة له بما حدث.

ودائمًا وحتميًّا، عندما تستمد الشعوب قوتها من عقيدتها وعدالتها، فإنها تقود العدوّ إلى زوالٍ دون رجعة.