الشهداء.. أنوارٌ لا تنطفئ في درب الأمة

البيضاء نت | مقالات 

بقلم / أحمد قحيم

 

في زمنٍ غابت فيه القيم، وتاهت فيه الأمم بين الاستهلاك والخضوع، يقف اليمن – هذا البلد المجبول بالكرامة والإيمان – ليحيي ذكرى الشهداء لا كطقسٍ عابر، بل كفعل وعيٍ وانتماءٍ وإحياءٍ للروح التي لا تموت.. في كل عام، تعود هذه الذكرى لتفتح نوافذ القلب والعقل معًا، ولتقول للعالم: إنّ الدم الزكي الذي أُريق دفاعًا عن الأرض والعرض، لم يذهب هدرًا، بل صار نهرًا من الوعي يجري في عروق الأمة.

الشهيد في الوعي اليمني ليس مجرد اسمٍ على لافتة، ولا صورة تُعلّق في شارع.. هو معنى يتجسّد في حياة الناس، في صمودهم، في بساطتهم النبيلة، في تضحياتهم اليومية. الشهيد هنا ليس فقط من حمل السلاح، بل هو من آمن بأن الدفاع عن الكرامة عبادة، وأن مواجهة الطغاة جهادٌ في سبيل الله، وأن الدم حين يراق من أجل الحق، يزرع أجيالًا من الأحرار.

ولذلك حين يحتفي اليمنيون بذكرى الشهيد، فهم لا يحيون ذكرى الماضي، بل يواصلون كتابة المستقبل.. يفتحون صفحات النور في وجه الظلمة، ويجددون العهد مع الله ومع الوطن ومع خط الأنبياء والأولياء بأن لا عودة إلى الذل، ولا تراجع أمام العدوان، ولا مساومة على القيم التي استُشهدوا من أجلها.

هذه الذكرى تحمل في طياتها أكثر من الحزن، إنها فرحٌ بالشرف، واعتزازٌ بالانتماء إلى أمةٍ تعرف أن طريق الحرية مفروشٌ بالدماء الطاهرة.. إنّها لحظة تأملٍ عميق، يراجع فيها كل إنسان نفسه: ماذا قدّم؟ وإلى أين يسير؟ وما الذي يعنيه أن تكون حيًّا في زمنٍ يُقتل فيه الشرفاء لأنهم أحرار؟

الشهيد في جوهره، ليس من غاب عن الحياة، بل من تجاوزها إلى خلودٍ أبدي، من كتب بدمه ما عجزت الأقلام عن كتابته.. هو المعلم الأول الذي لا يتكلم بالكلمات، بل بالفعل، الذي يذكّرنا أن النصر ليس صدفة، وأن العزة لا تُمنح، بل تُنتزع بثمنٍ غالٍ، وأن الدماء الزكية هي التي تصنع السيادة والاستقلال.

من هنا، تتحول ذكرى الشهيد في اليمن إلى مدرسةٍ سنوية، تُعيد صياغة الوعي الجمعي، وتربط بين الجهاد والبناء، بين الإيمان والعمل، بين الشهادة والحياة.. هي ليست مناسبة للحداد، بل مناسبة للانطلاق.. فالدم الذي سقى تراب اليمن أنبت مشروعًا تحرريًا شامخًا، ومجتمعًا يزداد وعيًا وصلابةً كلما حاول العدو كسر إرادته.

في كل بيتٍ شهيد، تنبض أمة.. وفي كل أمٍ يمنيةٍ قدّمت ولدها، تنكسر هيبة الطغيان.. وفي كل طفلٍ يرى في أبيه شهيدًا، يولد وعدٌ جديد بأن الحق باقٍ والباطل إلى زوال.. هذه المشاهد التي تتكرّر في الريف والمدينة، في الجبال والسهول، تُذكّرنا أن ثقافة الشهادة هي أعظم ما يمكن أن يملكه شعبٌ في مواجهة الاستكبار.

ما بين الدم والكرامة، اختار اليمنيون أن يكونوا حيث أراد الله لهم أن يكونوا: في صفّ المستضعفين، على خطّ الحسين في وجه يزيد العصر.. وها هي ذكرى الشهيد تعود كل عام لتقول للعالم: إن الأمة التي تكرّم شهداءها لا يمكن أن تُهزم، وإن الدم حين يسير في طريق الحق يصنع مجدًا خالدًا لا تطفئه كل جيوش الأرض.

هي إذًا، ليست مجرد ذكرى.. إنها وعدٌ مستمرّ، وعهدٌ متجدد، وسراجٌ لا ينطفئ في دربٍ طويلٍ من الجهاد والبناء، يضيء للأجيال القادمة أنوار الحرية، ويغرس في قلوبهم الإيمان بأن الشهداء أحياءٌ عند ربهم، وأحياءٌ في وجدان شعبهم، ما بقيت في هذا العالم كلمة حقٍّ تُقال، وراية مقاومةٍ تُرفع.