قلب الطاولة الرقمية: من منظومات التجسُّس إلى قوة المقاومة المعرفية

البيضاء نت | مقالات

بقلم / عدنان عبدالله الجنيد

 

في عالم اليوم، لم يعد الذكاء الاصطناعي مُجَـرّد تقنية مساعدة، بل تحوّل إلى ساحة صراع حضاري وجودي؛ يعبّد طريق الهيمنة أَو يفتح آفاق التحرّر، ويُشكل مصائر الشعوب بشكل حاسم.

إن الأموال الطائلة التي تُنفق في الغرب لتشكيل الرأي العام والهيمنة على البيانات، يمكن قلب المعادلة واستثمارها عكسيًّا؛ لتحويل أدوات الاستكبار إلى أدوات للتحرير، وتحويل كُـلّ خوارزمية تُصمم للسيطرة على العقل البشري إلى سلاح لتعزيز الوعي الجمعي.

إن الذكاء الاصطناعي تجاوز كونه منتجًا تقنيًّا محضًا ليصبح منظومة قوة متعددة الأبعاد.

فهو تقنيًّا: يعتمد على شبكات عصبية اصطناعية وبيانات ضخمة وخوارزميات تعلم عميق، تحاكي الدماغ البشري وتستشرف السلوك الإنساني.

وهو جيوسياسيًّا: أدَاة للتحكم والاستغلال، تخضع لهيمنة شركات كبرى ودول عظمى ورأس المال العالمي، الذي يسيطر على البنية التحتية والسوق والبيانات.

وهو إعلاميًّا ومعرفيًّا: أدَاة فاعلة في إعادة تشكيل الوعي، وخلق فقاعات معرفية، وإعادة برمجة الانتماءات والهُويات الثقافية.

لقد أصبحت كُـلّ نقرة وكل ثانية استخدام وكل تفاعل رقمي، جزءًا من منظومة مراقبة وتوجيه واسعة، تتحكم في العقول قبل أن تتحكم في الأسواق.

وتتجلّى مظاهر هذه الهيمنة في تحالف ثلاثي الأضلاع: الشركات الكبرى مثل “جوجل” و”ميتا” و”مايكروسوفت” التي تسيطر على معظم البنية التحتية الرقمية العالمية، والدول العظمى التي تحكم المشهد من خلال التفوق التقني والتنظيمي، ورأس المال الاستثماري العالمي الذي يوجّه مسارات التطوير وفقًا لمصالحه.

هذا التحالف يفرض سيطرته على تدفق المحتوى والمعلومة، ويمارس التضليل المنظم، ويعيد تشكيل الواقع بما يخدم أجنداته.

وقد اخترق الذكاء الاصطناعي كُـلّ مجالات الحياة تقريبًا: من الصحة والتعليم إلى الاقتصاد والتمويل والإعلام والترفيه، وُصُـولًا إلى الأمن والدفاع.

لقد أصبح الهواء الرقمي الذي نتنفسه، ومعه تتحدّد معادلات القوة والسيادة والهُوية في العصر الحديث.

بيد أن هذه الصورة القاتمة لا تخلو من بصيص أمل.

فبينما ينفق المستكبرون المليارات لتثبيت دعائم السيطرة، تبرز فرصة تاريخية لقلب الطاولة الرقمية وتحويل هذه المنظومات إلى أدوات للتحرّر.

وتكمن هذه الفرصة في بناء “مناعة رقمية” برفع وعي الشعوب بمخاطر التلاعب، واستخدام أدوات حماية البيانات، وتشكيل فرق استجابة للهجمات المعلوماتية.

كما تكمن في إنشاء مِنصات سيادية وطنية، كمحرّكات البحث وشبكات التواصل المحصنة، وخلايا التحقّق من الحقائق.

ولا تكتمل هذه الاستراتيجية إلا بتحقيق “سيادة كاملة” عبر تشريعات حماية البيانات القوية، وتطوير أدوات محلية لإنتاج المعرفة، وإقامة تحالفات استراتيجية عابرة للحدود.

إن الأدوات ذاتها التي صُمِّمت لإخضاع الشعوب، يمكن توظيفها لبناء قوة معرفية سيادية، تتحول فيها المعلومات إلى سلطة، والخوارزميات إلى وعي، والبيانات المسروقة إلى سلاح ضد المتسلطين.

ويمكن ترجمة هذا الهدف إلى استراتيجية عملية تبدأ بخلق هُويات رقمية واقية، وتمر بفهم وآليات الهندسة العكسية للخوارزميات، وُصُـولًا إلى بناء بنية تحتية بديلة معتمدة على تقنيات مثل “البلوك تشين” والتخزين الموزع، وإطلاق منصة رقمية سيادية تكون بمثابة “عقل الأُمَّــة” النابض.

غير أن هذا الطموح لا يخلو من مخاطر وجودية جسيمة.

فأهم التهديدات تكمن في تفريغ العقل النقدي واستبداله بالتلقين، وتشويه الذاكرة الجمعية عبر إعادة كتابة التاريخ وتزييفه، وتعميق الفجوة الرقمية في التعليم لتحويله من عملية بناء معرفي إلى استهلاك معلوماتي سلبي، ناهيك عن الأزمات الأمنية الناجمة عن التجسس الشامل والأسلحة ذاتية القرار، والأخطار الأخلاقية المتعلقة بالتمييز الخوارزمي وتآكل الإرادَة الحرة.

كُـلّ هذه التهديدات، إن لم تُواجه بحكمة وإرادَة، قد تحول الذكاء الاصطناعي من أدَاة تقدم إلى أدَاة استعباد حقيقي للعقول.

ختامًا، المعركة الحاسمة في مستقبلنا ليست على الأرض وحدَها، ولا في المال فحسب، بل هي معركة على ساحة الوعي والمعرفة.

إن وعدَ الله تعالى بأن تتحولَ كُـلّ أدَاة يستخدمها المستكبرون للقهر إلى حسرة عليهم، يمنحنا رؤية ثاقبة.

فالتقنية التي أنفقوا المليارات لتسخيرها، يمكن أن تصبح وسيلة لكشف مخطّطاتهم.

والبيانات التي جمعوها، والخوارزميات التي صمّموها، يمكن أن تعود عليهم وبالًا.

الغلبة في النهاية ستكون لمن يمتلك إرادَةَ العلم، ويوظّف التقنية في خدمة القيم الإنسانية الأصيلة.

وهذا، في جوهره، هو معنى قلب الطاولة الرقمية.