قرار مجلس الأمن حول غزة.. هزيمة عسكرية لـ”إسرائيل” ودبلوماسية للعرب
البيضاء نت | تقرير علي الدرواني
جاء قرار مجلس الأمن الأخير بشأن غزة ليكشف حقيقتين متناقضتين ظاهريًا، لكنهما متكاملتان في العمق. الأولى أن “إسرائيل” منيت بهزيمة سياسية كبرى بعد عامين من العدوان، فرغم الدمار الهائل الذي ألحقته بالقطاع، إلا أنها لم تتمكن من فرض أهدافها، فإعادة الأسرى تمت باتفاق، ومحاولة تدمير المقاومة ونزع سلاحها تحولت عبر قرار مجلس الأمن، عوضا عن الحرب الفاشلة والوحشية في نفس الوقت.
والحقيقة الثانية أن الدول العربية المتورطة مع واشنطن في مشاريع المنطقة قد منيت بهزيمة دبلوماسية واضحة، بعد فشلها في الحصول على اعتراف أمريكي صريح بالدولة الفلسطينية، أو حتى بإلزام دولي بقيامها. على الأقل ظاهريا تقول تلك العواصم العربية إن هذا أهم أهدافها.
فالقرار الذي بدا -في ظاهره- خطوة نحو السلام، كان في جوهره مشروعا أمريكيا كاملا لإدارة ما بعد الحرب، يمنح واشنطن -عبر دونالد ترامب تحديدا- سلطة مطلقة على مستقبل غزة، دون أن يمنح الفلسطينيين أي ضمانات حقيقية لحقوقهم الأساسية.
هزيمة “إسرائيل” عسكريا رغم الدمار
بعد عامين من القصف المستمر الذي خلف أكثر من 70 ألف شهيد، ودمر أكثر من 90% من مباني غزة، كان الكيان الإسرائيلي تأمَّل في حصد مكاسب سياسية واضحة، من بينها تصفية حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وفرض نظام حكم جديد يخضع للرقابة الإسرائيلية، وتأسيس بيئة أمنية تضمن سيطرة طويلة الأمد على القطاع، لكن القرار الأممي جاء ليضع مستقبل غزة في يد “مجلس السلام” بقيادة ترامب، ما يعني -فعليا حسب المراقبين- انتزاع ملف غزة من يد “إسرائيل” ووضعه تحت وصاية دولية-أمريكية.
وهذا، وإن كنا غير متفائلين به، إلا أنه يعد اعترافا غير مباشر بأن الكيان المجرم لم ينجح في تحقيق أهدافه الاستراتيجية، رغم الدمار واسع النطاق الذي خلفته آلته العسكرية في القطاع.
غموض ومخاطر.. إدارة أمريكية بصيغة دولية
ينص القرار 2803 على تشكيل “مجلس سلام” يرأسه ترامب، يتولى الإشراف على قوة استقرار دولية لـ”نزع السلاح”، ولجنة تكنوقراط فلسطينية، وقوة شرطة محلية، لإدارة غزة لمدة عامين.
واللافت أن هذا الـ”مجلس” لا يتبع الأمم المتحدة، ولا يخضع لقراراتها السابقة، ويملك سلطة شبه مطلقة على الترتيبات السياسية والأمنية المقبلة. وفي ظل الغموض الذي يكتنف المجلس من حيث العضوية والصلاحيات، فإنه يعكس رغبة واضحة في تدويل غزة وفق الرؤية الأمريكية دون التزامات أو قيود.
هزيمة عربية في معركة الاعتراف بالدولة الفلسطينية
رغم ما يبدو أنها ضغوط عربية وإسلامية مكثفة من أجل “حل الدولتين”، فشلت العواصم العربية في إدراج صياغة صريحة تتعلق بالحق الفلسطيني في تقرير المصير، أو الاعتراف بالدولة الفلسطينية، والالتزام بـ”حل الدولتين”، فجاءت النتيجة بصياغة ضعيفة ومشروطة تقول إن “الظروف قد تتهيأ لمسار موثوق نحو تقرير المصير وإقامة الدولة”، وهي عبارة لا تلزم أحدا بشيء، وتربط الحق الوطني الفلسطيني بشروط إجرائية تتعلق بإصلاحات السلطة وإعادة الإعمار، لم تحددها أي معايير، ما يجعل هذه الشروط أداة بيد واشنطن و”تل أبيب” للتنصل والمماطلة وكسب الوقت للعمل على تصفية القضية الفلسطينية بأسوأ من “أوسلو” نفسه.
وبهذا تكون الدول العربية قد خسرت الجولة الدبلوماسية، واكتفت بقبول صيغة ناقصة لا ترتقي لمستوى اللحظة، ولا لحجم التضحيات الفلسطينية.
مخاوف دولية، وتوجس صهيوني
القرار أثار غضب “اليمين” الإسرائيلي، الذي ادعى أنه “تهديد مباشر” لأمن الكيان، ما دفع “بنيامين نتنياهو” لإعادة التأكيد على رفضه لأي حديث عن السيادة الفلسطينية. في المقابل ترى عواصم أوروبية وإسلامية أن القرار -رغم ما فيه من عيوب وغموض- يبقي ترامب منشغلا بالملف، وقد يفتح نافذة لتحسين دخول المساعدات إلى غزة، وربما استئناف الحديث عن التسوية السياسية. وبناء على ذلك، يرى البعض أن تدويل الملف قد يساهم في الحد من التفرد الإسرائيلي بغزة، وقد يمثل بعضا من الحماية للمدنيين فيها، ويفتح هامشا للمناورة مستقبلا داخل ما يسمى “مجلس السلام”.
وإن كان هذا صحيحا بعض الشيء، إلا أن التاريخ والتجارب مع الكيان المدعوم من واشنطن تقول إن هذه مجرد تسلية لا علاقة لها بالواقع، على الأقل لأن لا أحد من هؤلاء قادر على فرض أي شيء ميدانيا. لكن بالمقابل تعمل “إسرائيل” وأمريكا على فرض وقائع على الأرض، مستندة لإطلاق يدها دون رقيب، وهذا هو سبب الخشية الفلسطينية والدولية، وقد كانت الأكثر تعبيرا عن تلك الخشية مداولات مندوبي روسيا والصين في جلسة التصويت على القرار.
خلاصة
جاء القرار 2803 ليعكس فشلا إسرائيليا في تحويل الحرب إلى مكسب سياسي، وفي الوقت نسه فشلا عربيا في انتزاع اعتراف دولي بالدولة الفلسطينية. وبين هذين الفشلين، تتقدم واشنطن خطوة جديدة نحو إعادة هندسة المشهد الفلسطيني، بينما يبقى مستقبل غزة رهين آليات التطبيق المفترض لهذا القرار، وطبيعة تشكيل القوات الدولية، لا سيما بعد سماع الأنباء عن رفض دول عربية وإسلامية المشاركة فيها، نأيا بنفسها عن أن تكون في مواجهة المقاومة ومحاولات نزع سلاحها.