صنعاء وانقسام الخصوم

البيضاء نت | مقالات 

بقلم /  فهد شاكر أبوراس

بين أمواج الخليج الهائجة ورمال الربع الخالي الحارقة، تُنسَج في اليمن معادلة استراتيجية بالغة التعقيد، تبرز فيها صنعاء كلاعب رئيسي يفهم قواعد اللعبة الجيوسياسية ويُحسن قراءة خريطة تناقضات أعدائه.

فالصراع الخافت والعميق بين السعوديّة والإمارات على النفوذ في جنوب اليمن، وخَاصَّة على ثروات ومواقع عدن وحضرموت والمهرة الاستراتيجية، ليس مُجَـرّد خلاف ثانوي بين حلفاء، بل هو تشقُّق استراتيجي في جدار التحالف الذي واجهت به صنعاء سابقًا.

إن هذه الشقوقَ التي تتسع ببطء تُشكل اليوم أحد أهم أراضي التمكين لاستراتيجية صنعاء طويلة الأمد، والتي تعتمد على الصبر، وقراءة التفاصيل الدقيقة، وتعزيز التماسك الداخلي في مواجهة خصم مشتت.

صنعاء تدرك أن هذا الصراع “مضبوط” من الطرفين، حَيثُ لا تستطيع الرياض التخلي عن حليفتها الإمارات بشكل كامل ولا تقبل بسيطرتها المطلقة على مفاصل جنوب اليمن الحيوية، ولا ترغب أبوظبي في مغامرة قد تكلفها تراجُعًا في مكاسبها، يجعل من صنعاء المراقب الحصيف والقادر على استشراف تحَرُّكات الطرفين واستغلال لحظات التردّد والضعف فيهما.

تتجلى ذروة هذا التنافس في البُعدَين الجغرافي والاقتصادي المتشابكين.

فالإمارات -برؤيتها التجارية التوسعية- تركِّز على السيطرة على الممرات والموانئ البحرية الحيوية التي تشكل شرايين التجارة العالمية والنفوذ الإقليمي.

فالسيطرة على ميناء عدن والمخاء وبلحاف وميناء الصليف لا تمثل حضورًا لوجستيًّا فقط، بل هي أدَاة للتحكم في تدفق المساعدات والبضائع، وبالتالي ممارسة شكل من أشكال الوصاية الاقتصادية على المناطق الجنوبية.

وفي المقابل، تنظر السعوديّة إلى عمقها الجنوبي بنظرة أمنية واقتصادية وجودية.

فحضرموت ليست مُجَـرّد محافظة يمنية، بل هي امتداد جيوسياسي للربع الخالي ومخرج المملكة الحيوي نحو بحر العرب، وحجر الزاوية في أحلام خطوط أنابيب النفط البديلة عن مضيق هرمز المعرَّض للتهديد.

لذلك، فإن المشروع السعوديّ في حضرموت هو مشروع “مستقبلي” يتعلق بأمن الطاقة والعمق الاستراتيجي لمملكة بني سلمان.

وهذا التبايُنُ في الرؤية يخلق تناقضًا عمليًّا على الأرض؛ فالإمارات تدعمُ ما يسمى بـ”المجلس الانتقالي الجنوبي” الذي يطمح للسيطرة على كُـلّ الجنوب بما فيه حضرموت، بينما تعمل السعوديّة على إضعاف سيطرة الانتقالي هناك عبر دعم تشكيلات محلية موازية مثل ما يُسمى بـ”قوات حماية حضرموت” و”اللواء الأول حرس حدود” وغيرهما، بل وحتى عبر فتح قنوات اتصال مع أطراف مناوئة للانتقالي في تلك المناطق.

هذا التشرذم في قيادة المعسكر المنافس لصنعاء يُضعِف فاعليته ويجعله عاجزًا عن تشكيل تهديد موحد ومتماسك، مما يمنح صنعاء هامشًا واسعًا للمناورة وترتيب أولوياتها العسكرية والسياسية.

وفي قلب هذا التنافس، تقف حضرموت كجوهرة التاج المتنازع عليها؛ فثرواتها النفطية والغازية لا تُقدَّر فقط بقيمتها السوقية، بل كأوراق ضغط سياسية فاعلة.

يخلق التنافس الإقليمي واقعًا معقَّدًا على الأرض، حَيثُ تظهر قوى محلية، مثل “حلف قبائل حضرموت” الذي يرفض الوصاية الخارجية بشقيها السعوديّ والإماراتي ويسعى لحكم ذاتي أَو حتى إحياء سلطنة حضرموت السابقة.

وهذا التعدد في الفاعلين يحوِّل جنوب اليمن إلى فسيفساء من الولاءات والتحالفات المتقلبة؛ مما يجعل أية محاولة لفرض سيطرة مركزية من قبل التحالف مهمة شبه مستحيلة.

وهنا تكمن براعة صنعاء الاستراتيجية؛ فهي لا تنغمس في هذه المعارك الفرعية، بل تحافظ على تماسك جبهتِها الداخلية وتراقبُ من بعيد.

ولقد أظهرت القبائلُ المؤيدة لصنعاء في المحافظات الشمالية والوسطى، عبر بيانات التعبئة والاستعداد، أنها تشكِّل عمقًا استراتيجيًّا وعسكريًّا يصعب اختراقه، مما يسمح لصنعاء بالتركيز على تعزيز خطوط الدفاع وتطوير قدراتها دون خوف من انهيار الجبهة الداخلية.

والنتيجة الحتمية لهذا الصراع المضبوط على النفوذ هي أن التكلفة الحقيقية يدفعها شعب اليمن، وبالأخص القوى العاملة والفئات الهشَّة في الجنوب، حَيثُ يتحوّل الإنسان اليمني إلى وقود لآلة صراع لا تخدم مصلحته.

إن انهيارَ الخدمات الأَسَاسية من كهرباء وماء وصحة في عدن والمناطق المحتلّة، مقابل الاستقرار في المناطق المحرّرة رغم الحصار، يرسم صورة واضحة عن قدرة كُـلّ طرف على الإدارة وتقديم الحد الأدنى للمواطن.

باختصار، يخلق الصراعُ الخفي بين السعوديّة والإمارات في الجنوب حالةً من “التوازن السلبي” أَو “الجمود المتحَرّك”، حَيثُ يستنزف الطرفان بعضهما بعضًا في معاركَ جانبية بينما تترسَّخُ صنعاء كقطب ثابت ومتماسك.

إن قدرةَ صنعاء على قراءة هذه التناقضات بدقة، ورفضها للوصاية الخارجية، وتحويلها لحالة التماسُك الداخلي إلى قوة ردع واستقرار، يجعلُها الطرفَ الأكثرَ استفادةً من الفوضى المُدارة في الجنوب.

فبينما تنشغلُ الرياض وأبوظبي بضبط صراع نفوذهما؛ كي لا يتحوَّلَ إلى حرب مفتوحة، تنسجُ صنعاءُ خيوطَ مرحلة ما بعد هذه الفوضى، مُعزِّزةً موقعَها كقائد وطني لا بديل عنه، وقادر على حسم المعركة على مستقبل اليمن من خلال إرادَةٍ داخليةٍ صُلبة وقراءة استراتيجية عميقة لتناقضات وأخطاء خصومِها.

إن المشهدَ في الجنوب، رغم مأساويته الإنسانية، يَصُبُّ في المدى البعيد في صالح المشروع الذي تتمسَّكُ به صنعاء، حَيثُ إن مشروعَها الوطنيَّ وانقسامَ خصومها هما أقوى حلفاء استقرارها وتماسكها.