وأعدُّوا لهم.. التحصين فريضة مقدسة «1»

البيضاء نت | مقالات 

بقلم / بشير ربيع الصانع

 

إن ما نعيشُه اليوم هو واقعٌ تشكَّل عبر سنوات طويلة من الاستهداف الممنهج لأبناء الأُمَّــة الإسلامية، استهداف لم يخفِه الأعداء يومًا، ولم يتردّدوا في التصريح به أَو التخطيط له أَو الاستعداد لتنفيذه في كُـلّ وقت يرونه مناسبًا.

ومن هنا فإن الوعي بهذه الحقيقة هو واجبٌ شرعي وعقلي وأخلاقي؛ لأن الله سبحانَه وتعالى لم يخاطبنا بوَهْمٍ أَو احتمال، وإنما خاطبنا بعلمٍ محيطٍ بنوايا الأعداء وما يضمرونه في صدورهم من حِقدٍ وضغينة، فقال عز وجل: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة}، فجاء الأمرُ واضحًا، مباشرًا، لا لبسَ فيه ولا تأجيل.

هذا التوجيهُ الرباني لم يصدُرْ إلا عن حكيمٍ عليم، يعلمُ خفايا النفوس، ويكشفُ لنا ما قد تغفلُه الأبصارُ أَو تتغافَلُ عنه القلوب؛ ولذلك كان منهجًا دائمًا للأُمَّـة التي تحمل الحق وتتحَرّك على أَسَاسه.

فالإعدادُ هو تحصينٌ للنفس، وحمايةٌ للمجتمع، وصيانةٌ للكرامة، وقطعٌ للطمع في قلوب المتربصين.

وعندما يصفُ الله سبحانه وتعالى حالَ الأعداء في قوله: {لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جميعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَو مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جميعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ}، يوضح الله سبحانه وتعالى صورتين واضحتين من حال الأعداء؛ الصورة الأولى أنهم لا يُقدمون على القتال إلا وهم متحصنون، يختبئون خلف القرى المحصنة والأسوار والجدر، حرصًا على سلامتهم وخوفًا من المواجهة المباشرة.

أما الصورة الثانية فتبيّن حالَهم فيما بينهم، حَيثُ تبدو شدتهم وقسوتهم داخل صفوفهم، في حين أن قلوبهم متفرقة، ومواقفهم متباينة، لا يجمعهم مبدأ ولا يوحِّدهم هدف صادق.

وهنا يبرز السؤال الجوهري: إذَا كان أهلُ الباطل، وهم يعلمون أنهم على ظلم وعدوان، يحرصون أشدَّ الحرص على حماية أنفسهم وبناء التحصينات والملاجئ وتأمين عائلاتهم، فما بال أهل الحق يتردّدون أَو يتكاسلون وهم يعلمون أنهم مستهدَفون؛ لأنهم يحملون قضية عادلة؟ أيُّ منطق يقبل أن يسبقَنا العدوُّ إلى التحصين، ونحن نملك الوحي، ونحمل الرسالة، ونتلقى الأمر الصريح من الله بالإعداد؟

إن الواقعَ الصارِخَ في فلسطين المحتلّة يكشف هذه المفارقة بوضوح، حَيثُ لا يُسمح لأي مستوطن أن يبني منزلًا إلا وهو مجهز بمأوى محصن، ومكان آمن يحتمي فيه عند الخطر، وكأن الخوف جزء لا يتجزأ من حياتهم اليومية.

بينما في المقابل يتردّد كثير من أبناء الأُمَّــة في التفكير الجاد ببناء وسائل التحصين، أَو يستخفون بأهميّة الاستعداد، أَو يؤجلونه بحجج واهية، مع أن الخطر أوضح، والاستهداف أشد، والواجب أعظم.

إن الدعوةَ إلى بناء التحصينات والملاجئ ليست دعوة للخوف، بل هي دعوةٌ للوعي، وهي تعبير عن الثقة بوعد الله مع الأخذ بأسباب النجاة.

فالإيمان الحقيقي لا يتناقض مع الاستعداد، والتوكل الصادق لا يعني إهمال الأسباب، بل إن الجمع بينهما هو جوهر المنهج الإسلامي.

وقد علّمنا القرآن أن الأنبياءَ أنفسهم كانوا يأخذون بالأسباب وهم أصدقُ الناس توكلًا على الله.

إن بناءَ التحصينات في البيوت، وفي الأحياء، وفي المنشآت، هو رسالة واضحة للأعداء بأن هذه الأُمَّــة واعية، يقظة، لا تُفاجَأ، ولا تُؤخذ على غِرَّة.

وهو أَيْـضًا التزام عملي بأمر الله، وتجسيد حي لمعنى القوة التي أمرنا بإعدادها، قوة تحمي قبل أن تردع، وتمنع قبل أن تعالج.

إن المرحلة التي نعيشها تتطلب انتقالًا من الأقوال إلى الأفعال، ومن التمني إلى العمل، ومن ردود الأفعال إلى المبادرة.

فكل بيت يُحصَّنُ هو خطوة في طريق الصمود، وكل ملجأ يُجهَّزُ هو إعلانٌ بأن هذه الأُمَّــةَ لا تنتظرُ الضربةَ لتتحَرّك، بل تستبقُ الخطرَ بوعي وإيمان.

وحين يستشعرُ الناسُ أن التحصينَ عبادة، وأن الاستعدادَ طاعة، وأن حمايةَ النفس والأهل جزءٌ من المسؤولية الشرعية، سيتحوَّلُ هذا الوعيُ إلى ثقافة عامة، وإلى حالة مجتمعية شاملة.

إن الاستجابةَ لأمر الله في قوله: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة} هي واجبٌ جماعي، يبدأ من الفرد، ويمتد إلى الأسرة، ويشمل المجتمع بأكمله.

وكل تأخير في ذلك هو تفريط، وكل تهاون هو فتح باب للطامعين.

أما المبادرة، فهي رسالة حياة، ورسالة كرامة، ورسالة أُمَّـة قرّرت أن تكونَ يقظة، مستعدةً، ومتمسكة بحقها، واثقة بربها، عاملة بأمره، لا تنتظر إلا نصره.