شرط المصداقية: تحرير الذات قبل نقد الآخر

البيضاء نت | مقالات

بقلم /  علي هراش

 

في خضم تعقيدات المشهد السياسي في اليمن، يبرز صوت بعض الناشطين الجنوبيين الذين يوجهون انتقادات حادة تجاه حكومة صنعاء، ويقدِّمون تحليلات نظرية حول أوضاع العاصمة وما تواجهه من تحديات.

لكن المفارقة تكمن في أن هؤلاء الناشطين أنفسَهم يعيشون واقعًا مختلفًا تمامًا؛ واقعًا يحملُ سماتِ الوصاية والتبعية، حَيثُ يجدون أنفسَهم تحت السيطرة المباشرة أَو غير المباشرة لقوى خارجية.

هذه الازدواجية تطرحُ أسئلةً وجودية عميقة: كيف يمكن لمن هو تحتَ وصاية الاحتلال وتحت تأثير سيطرة خارجية واضحة أن يوجه سهام نقده نحو آخرين وهم يواجهون تحدياتهم الخَاصَّة؟ أليس الأولى به أن يركز جهوده على تحرير نفسه وموطنه من هذه السيطرة التي تجعله في موقع التبعية والمهانة؟

الحقيقة التي قد يغفل عنها البعض هي أن صنعاء، رغم كُـلّ ما تواجهه من حصار وضغوط ومؤامرات، تمثل نموذجًا للجهاد والمقاومة والاستقلال في صناعة القرار.

بينما يعيش هؤلاء الناشطون في واقع يفتقرُ لأبسط مقومات السيادة، حَيثُ تُفرض عليهم الإرادات الخارجية، وتُقدّم مصالح القوى الداعمة لهم على مصلحة الشعب اليمني عامة والجنوبي خَاصَّة.

اللافت في الموقف هو تحميل صنعاء مسؤولية استمرار هذا الوضع المهين.

فهذا التحويل للمسؤولية لا يحلّ الأزمات، بل يعمّقها ويشتت الجهود.

السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه: ماذا قدّم هؤلاء الناشطون لتحرير أنفسهم وبلدهم من السيطرة الخارجية؟ وهل يمكن لمن لم يستطع إنقاذ نفسه من براثن التبعية أن يكون مؤهلًا لنقد آخرين يواجهون تحدياتهم بوسائلهم الذاتية؟

وتشكل العاصمة اليمنية صنعاء نموذجًا متماسكًا في ظل الظروف الاستثنائية التي تمر بها البلاد، حَيثُ حافظت على مقومات الدولة الأَسَاسية رغم كُـلّ التحديات.

ففي صنعاء نجد قيادة سياسية وعسكرية موحدة تتحَرّك بإرادَة واحدة، ونظامًا ماليًّا متماسكًا حول بنك مركزي واحد يحافظ على استقرار العملة الوطنية ويحمي القوة الشرائية للنقد المحلي، وبنك موحد لكل الإيرادات.

وهذا الاستقرار النقدي لم يأتِ من فراغ، بل هو نتاجُ سياسة اقتصادية مستقلة تعمل وفق أولويات وطنية بعيدة عن الضغوط الخارجية.

كما تمتلك صنعاء مؤسّسة عسكرية موحَّدة تعمل تحت قيادة واحدة، وجهازًا أمنيًّا متكاملًا يحفظ الأمن الداخلي ويواجه التحديات الأمنية بتناغم مؤسّسي نادر في زمن الحرب.

هذا البناء المؤسّسي الموحد ليس مُجَـرّد ترتيبات إدارية، بل هو تعبير عن مشروع وطني متكامل، يستند إلى مرجعية قرآنية تُشكّل الإطار الفكري والروحي للمجتمع، وتوجّـه السياسات العامة في مختلف المجالات.

وفي المقابل، يقدم واقع المناطق الجنوبية صورة مغايرة تمامًا، حَيثُ يتجلى التشرذمُ والتبعية في معظم جوانب الحياة العامة.

فالقرار السياسي في الجنوب ليس قرارًا وطنيًّا مستقلًّا، بل هو خاضع لإرادات متعددة ومتصارعة.

فالسيادة الوطنية تُباع وتُشترى في سوق المصالح الدولية والإقليمية، فيما تتهافتُ بعضُ القوى الجنوبية على خطوات تطبيعية مع كيان الاحتلال الإسرائيلي في خطوة خطيرة قد تسرِّعُ بسقوطها.

الجنوب يعيشُ حالةً من الانقسام المؤسّسي الصارخ: لا قيادة موحدة تجمع شتات الرأي، ولا بنك مركزي واحد يتحكم بالسياسة النقدية، ولا جيش وطني موحد يدافع عن حدود الوطن، بل مليشيات متعددة تتبع لولاءات خارجية متنافسة.

هذا الفراغ المؤسّسي فتح الباب واسعًا للوصاية الخارجية المتعددة الأطراف، فأصبح قرارهم مشروطًا بالموافقات الأمريكية والبريطانية والتوجيهات السعوديّة والإماراتية التي تصب جميعها في صالح كيان الاحتلال الإسرائيلي.

وهنا تكمن المفارقة التاريخية المؤلمة: كيف لمن هو تحت هذه الدرجة من التبعية والانقسام أن ينتقد تجربة تحافظ على الحدود الدنيا من السيادة والاستقلال؟ كيف تُقاس شرعية الخطاب السياسي وهو يصدر من تحت مظلة الاحتلال والوصاية؟

الحقيقة التي لا تحتاج إلى براهين معقَّدة هي أن من لا يملك قراره لا يملك حق تقرير مصير غيره.

ومن يعيش على فتات موائد الخارج لا يملك الجدارة الأخلاقية لتقييم مشروع وطني يحاول الصمود في وجه أعتى التحالفات الدولية.

صنعاء، رغم كُـلّ ما تعانيه من حصار وضغوط ومؤامرات، تمثل حالة صمود مؤسّسي وإرادَة وطنية، بينما يمثل الواقع الجنوبي حالة من الاستسلام الطوعي للهيمنة الخارجية والتفريط المتدرج في السيادة الوطنية.

ربما يكون الوقت قد حان لبعض ناشطي الجنوب أن يواجهوا مرآةَ واقعهم بصدق، قبل أن يوجهوا سهام النقد إلى عاصمة صامدة.

مرآة تعكسُ تشظّي الإرادَة، وتباع السيادة، وغياب المشروع الوطني المستقل.

فالنضال الحقيقي يبدأ من الداخل، من توحيدِ الصف، واستعادة القرار الوطني، ورفض الوصاية بكل أشكالها.

عندها فقط يمكن الحديث عن شرعية النقد، وعن رؤية وطنية بديلة قادرة على منافسة النموذج القائم في صنعاء أَو تطويره.

أما الحديث من تحت عباءة الاحتلال والتبعية، فهو حديثٌ يفتقد لأبسط مقومات المصداقية والتأثير.

النظر في المرآة مرة واحدة فقط قد يكفي لرؤية الحقيقة بوضوح.

حقيقة أن النضال الحقيقي يبدأ من تحرير الذات أولًا، ومن امتلاك الإرادَة المستقلة لصناعة القرار.

حقيقة أن التحرّر من الوصاية الخارجية شرط أَسَاسي لأي مشروع وطني حقيقي.

حقيقة أن توجيه النقد للآخرين بينما أنت أسير لسيطرة خارجية يجعل من هذا النقد بلا مصداقية ولا تأثير.

ربما تكون اللحظة المناسبة للأبواق في الجنوب هي التوقف عن إلقاء اللوم على الآخر، والنظر بجدية إلى الداخل.

إلى مرايا ذواتهم التي تعكسُ حقيقة أوضاعهم بعيوبها ومحدودياتها.

فقط عندما يعترفوا بحقيقتهم كما هي، يمكن أن تبدأ رحلةُ التغيير الحقيقية.

رحلة تبدأ بتحرير الإرادَة، واستعادة القرار المستقل، والبناء على أسس من الحق والعدالة والكرامة الإنسانية التي لا تكتمل إلا بالتحرّر من كُـلّ أشكال الهيمنة الخارجية.