صنعاء.. صاحبة الكلمة الأخيرة
البيضاء نت | مقالات
بقلم / علي هراش
تتسم الإشكالية السياسية الحالية في اليمن بدرجة عالية من التعقيد، نتيجة الاحتلال والتدخلات الخارجية التي تتقاسم النفوذ وتهيمن على الثروات والموانئ والجزر الحيوية.
في هذا المشهد، يلوّح المجلس الانتقالي بإعلان فك الارتباط وانفصال الجنوب، بإيعاز إماراتي وتوجيه من كيان الاحتلال الصهيوني، بينما تحتفظ العاصمة صنعاء بحق الفيتو والقدرة على تقرير المصير النهائي للبلاد؛ باعتبَارها المرجعية الأَسَاسية لليمن.
ويبدو أن إعلان الانفصال ليس بالقرار السهل أَو المنفرد الذي يمكن اتِّخاذه بمعزل عن اعتبارات أعمق، حَيثُ تتداخل العوامل الداخلية والإقليمية والدولية لتشكل شبكة معقَّدة من الضغوط والقيود.
يمضي مليشيا المجلس الانتقالي، المدعوم إماراتيًّا وإسرائيليًّا، في مساعيه بخطوات متسارعة مدفوعًا بأجندة خارجية لا تخدمُ اليمنيين؛ فيما يعتبر ذلك إنجازات ميدانية في السيطرة على مناطق واسعة في شرق البلاد.
لكن هذه الحماسة قد تغفل عن المخاطر الجوهرية التي قد تنجم عن هذه الخطوة؛ فالمجلس الانتقالي، على الرغم من توسعه الجغرافي، لا يملك بعدُ المقوماتِ الأَسَاسيةَ لدولة مستقرة وقادرة على البقاء.
فهو يفتقر إلى إجماع داخلي جنوبي قوي، حَيثُ توجد انقسامات واضحة داخل المناطق الجنوبية نفسها، خَاصَّة في حضرموت والمهرة اللتين تبديان موقفًا متحفُّظًا أَو رافضًا لفكرة الانفصال الأُحادي.
إضافة إلى ذلك، يظل الانتقالي مقيدًا بحسابات داعميه الإقليميين، الذين يستخدمون قضية الجنوب كورقة ضغط ضمن استراتيجيات أوسع في المنطقة، دون أن تكون لديهم بالضرورة نية حاسمة لإقامة دولة منفصلة؛ بل مِن أجلِ نهب الثروات وتطبيع العلاقات مع كيان الاحتلال الصهيوني وإيجاد موطئ قدم له ولأمريكا وبريطانيا واحتلال الجزر والموانئ.
فإعلان الانفصال قد يحول مليشيا المجلس من أدَاة مفيدة في المناورات السياسية إلى عبء أمني وسياسي ثقيل؛ مما قد يضع الحلفاء الإقليميين في مواجهة مباشرة مع بعض مواقف المجتمع الدولي الرافضة عُمُـومًا لتفتيت الدول القائمة، وخوف السعوديّة ليس مِن أجلِ الوحدة أَو اليمنيين؛ بل مِن أجلِ أطماعها في نفط حضرموت وشبوة.
وهذا يفسر بقاء خطاب الانفصال في مرحلة التهديد والتلويح، وجس نبض الشارع ومعرفة المواقف الدولية، بدلًا من أن يتحول إلى قرارٍ نهائي تنفيذي.
من جهة أُخرى، تتابع سلطات صنعاء المشهد بهدوء وحذر.
فهي تدرك جيِّدًا أن الصراعاتِ الداخلية داخل معسكر الخصوم، سواء بين فصائل الجنوب نفسها أَو بين القوى الإقليمية الداعمة لها، تعمل تلقائيًّا لصالح المصالح الخارجية.
ويعرف العالم كيف تبعثرت “الشرعية” التي كان يتشدق بها البعض وانتهت قبل أن تبزغ، بالرغم أن صنعاء تتألم لسفك الدم اليمني سواء في شماله أَو جنوبه.
لذلك تفضّل صنعاء عدمَ التسرع في الرد، وترك هذه التناقُضات تستنزفُ نفسَها، حتى تتضحَ الصورةُ أكثرَ قبل أن تتدخَّلَ بخطوات أكثرَ حسمًا وفعالية.
فصنعاء، بفضل سيطرتها على المركَز السكاني والاقتصادي والثقافي الرئيسي في اليمن، وبامتلاكها أدوات ردع عسكرية وأمنية قوية، تبقى الطرفَ المناديَ بالسلام والحوار مع الكل، وهي القادرة على فرض معادلات جديدة على الأرض.
كما أن موقعَها كعاصمة تاريخية يمنحها شرعية سياسية يصعب تجاهلها، إضافة إلى حاضنتها الشعبيّة الكبيرة.
هنا تبرز حقيقة أن صنعاء ما تزال تحتفظ بالقدرة على تقرير مصير البلاد بشكل حاسم، ليس فقط من منطلق الشرعية السياسية، بل أَيْـضًا من موقع القوة الفعلية والقدرة على تغيير موازين الصراع.
فأي إعلان لانفصال الجنوب، إذَا لم يأخذ في الاعتبار موقف صنعاء وقدرتها على الرد، سيبقى إعلانًا هشًّا ومعرَّضًا للانهيار عند أول اختبار جدي، سواءٌ أكان عسكريًّا أَو سياسيًّا أَو اقتصاديًّا.
فصنعاء تملك أدوات ردع وضغط كافية لتعطيل أي مشروع انفصالي لا يحظى بموافقتها، من خلال التحكم في الموارد والحدود والتواصل مع الفعاليات الداخلية في الجنوب نفسه، كما تملك حاضنة كبيرة في الشمال والجنوب.
وعليه، فإن التعقيد الكامن وراء إعلان فكِّ الارتباط لا يعود ببساطة إلى تردّد الانتقالي أَو نقص إرادته السياسية، بل هو نتاج إدراك عميق – سواء أكان معلنًا أَو غير معلن – بأن قضية الانفصال ليست قرارًا داخليًّا يمكن فرضه من طرف واحد.
فاليمن، على الرغم من مظاهر التشظّي التي يعيشها؛ بسَببِ التدخلات الخارجية، ما يزال يحكمُه منطقٌ مركزي حين يتعلق الأمر بالمستقبل النهائي لحدوده وسيادته.
المشهد يوضح أن صنعاءَ، برصيدها التاريخي وثقلها السكاني والعسكري، وبقيادتها الموحدة، تبقى حاجزًا أَسَاسيًّا أمام أية محاولة لتقسيم البلاد؛ مما يجعل أية خطوة نحو الانفصال الحقيقي مرهونةً بموقفها.
وهذا ما يحول دون تحول التلويح بالانفصال إلى واقع ملموس، ويحفظ للعاصمة صنعاء دورَ الحَكَم الأخير في رسم مصير اليمن الموحد.
ويبقى الخيار الأمثل لأبناء الجنوب هو تركُ التعويل على الخارج، وعدم التمسك بما يسمى بـ”الشرعية” التي جعلت من قضية الجنوب مشروع ارتزاق وكسب للأموال والمتاجرة بالدم اليمني.
على أبناء الجنوب مد يد الحوار والسلام مع صنعاء، التي ظلت تنادي بحل لمظلومية قضية الجنوب وتسعى إلى حلِّها حلًّا عادلًا في إطار يمن موحَّد، يحفظ لليمن واليمنيين كرامتهم وسيادتهم وهُويتهم الإيمانية الجامعة، بعيدًا عن المزايدات والتدخلات الخارجية.