الماضي.. ذاكرةُ الأمم وبُوصلة المستقبل
البيضاء نت | مقالات
بقلم / مبارك حزام العسالي
في خضمّ التحولات الكبرى التي يشهدها العالم، ومع احتدام المعارك السياسية والعسكرية والفكرية، تبرُزُ الحاجةُ المُلحّةُ لطرحِ سؤالٍ جوهريٍّ يُمثِّلُ أَسَاسَ النهضة، ومرتكَزَ الوعي، ومفتاح المستقبل: ماذا يمكن أن نتعلَّمَ من الماضي؟
ليس الحديث عن الماضي نوعًا من التَّرَف الذهني، ولا هو حنينٌ عاطفيٌّ لزمنٍ ولَّى، بل هو فعلُ مقاومة وعي، وضرورةٌ استراتيجيةٌ لكل شعبٍ يريدُ أن يتحرَّر، ويستعيدَ مكانتَه، وينهَضَ من كبوته.
فالماضي، إن قُرئ بوعي، هو خارطة طريق، وإن أُهمل أَو زُوّر، صار لعنةً تُقيّد الأجيال، وتُعيد إنتاج الهزائم.
الماضي ليس مُجَـرّدَ حكاية.. بل رسالةٌ ومسؤولية:
كُلُّ أُمَّـة حيّة تدركُ أن ذاكرتَها التاريخيةَ ليست أُلُبومًا للصور، بل مخزونٌ من الدروس، والحقائق، والسنن الكونية. حين نقرأ التاريخ، لا نقرأ أمواتًا ولا صفحاتٍ صفراء، بل نقرأ جذور واقعنا، وبذور مستقبلنا، نقرأ الإنسان في أقصى درجات مجده أَو سقوطه.
لقد أثبتت التجربة أن من لا يتعلّم من ماضيه، يسقط في فخّ تكراره. هكذا سقطت الإمبراطوريات التي تجاهلت مصير من سبقها، وهكذا أُجهضت ثورات؛ لأَنَّ أصحابها لم يستوعبوا أخطاء الثائرين قبلهم، وهكذا تتكرّر الخيانات؛ لأَنَّنا لم نُحصِّنْ وعيَنا ضِدَّ المنافقين كما حذّرنا القرآنَ الكريم.
دروسُ الماضي لا تنتهي.. لمن أراد أن يُبصر:
من الماضي نتعلم أن:
الظلم لا يدوم، ولو بدا أنه متجذّر، ففرعون سقط، والتتار اندحروا، والاستعمار انكسر، والأنظمة العميلة إلى زوال.
الشعوب لا تموت، وإن طال ليلها، فَــإنَّها تنهضُ فجأة، لتكتب التاريخ بدمائها وكرامتها كما يحدُثُ اليومَ في فلسطينَ واليمنِ ولبنانَ والعراق.
الحق لا يُقَاسُ بالعدد والعدة، بل بالإيمان والنية والبصيرة، وهذه سُنّة الحسين عليه السلام حين واجه طغيان يزيد.
التحرّر يبدأ من الوعي، لا من السلاح فقط. فـمن لم يُحرّر عقلَه، لا يستطيع أن يُحرّرَ أرضه.
الماضي هو مفتاحُ فهم الحاضر:
الحروبُ الجاريةُ اليوم، والاصطفافاتُ، والعداوات، والتدخُّلات، ليست وليدةَ اللحظة. إنها امتدادٌ لمشاريعَ قديمة، وصراعات تاريخية لم تُحسم.
من يفهم التاريخ، يفهم لماذا يستهدفون اليمن، ولماذا تُحاصَر غزة، ولماذا يُشوّه محور المقاومة، ولماذا يُراد للأُمَّـة أن تنسى قضاياها الكبرى.
الحاضر ليس إلا صدى لقرارات سابقة، لتحالفات أُبرمت في الظلام، لاتّفاقيات استسلام سُمّيت زورًا “سلامًا”، ولانقسامات دُفنت في النفوس وها هي تُخرِجُ أنيابَها من جديد.
الهُوية تبدأ من الذاكرة:
حين تُسلَب الذاكرة من الشعوب، يصبح من السهل اقتيادها، أَو إعادة برمجتها على النمط الذي يريده العدوّ. لذا تعمل الأنظمة العميلة والإعلام المأجور على طمس رموز المقاومة، وتشويه الثورات، وتسفيه التاريخ المجيد، وفرض رموز الخنوع كقُدوة مزيفة.
إن الذين يسخرون من الماضي، أَو يطلبون “نسيانَ التاريخ” بدعوى الواقعية، هم إمّا جهلةٌ، أَو أدواتٌ مدفوعة لتفريغ الأُمَّــة من روحها؛ إذ كيف ننطلِقُ إلى المستقبل بلا جذور؟ كيف نواجهُ العدوَّ بلا وعي بخططِه الممتدةِ عبر الأجيال؟
الماضي ليس سجنًا.. بل جناحُ طيران:
إن استحضارَ الماضي لا يعني البقاءَ فيه، بل الاستناد إليه للقفز إلى الأمام. فالتاريخُ ليس قيدًا، بل دافعٌ للتحرّر. لقد انتصرت أمم كثيرة؛ لأَنَّها درست سقوطَها الأول، وتفكَّكت أُخرى؛ لأَنَّها لم تفعل.
والعجيب أن أعداءَ الأُمَّــة يدرسون تاريخنا أكثرَ مما ندرُسُه نحن. يعيدون قراءةَ معارك بدر، وصِفِّين، وكربلاء، وفتح القدس، ليسَ بهَدفِ التقدير، بلَ بهَدفِ التحكّم في الوعي العربي والإسلامي، ومنع تكرار النهوض.
من كربلاء إلى فلسطين.. الماضي يُلهِب الحاضر:
حين نستذكر كربلاء، فَــإنَّنا لا نبكي فقط، بل نستنهضُ إرادَةَ التغيير، ونُعلِنُ براءتَنا من الظالمين في كُـلّ عصر.
وحين نقرأ سيرة الإمام زيد، والإمام يحيى، والمجاهدين في الثورة السبتمبرية، فَــإنَّنا لا نؤرّخ فقط، بل نُجدِّدُ العهدَ مع الكرامة.
وكذلك حين نتأمل في صمود الشعب الفلسطيني، فَــإنَّنا نرى كيف يُعيد التاريخ نفسه لا كنسخة مكرّرة، بل كملحمة مقاومة متجددة تُوقظ الضمير، وتُربك المستكبرين.
مَن يجهل التاريخ، يُخدع بسهولة:
من لا يعرِفْ خيانات المنافقين في عهد الرسول، سيُصدِّقْ اليومَ دجّالُ السياسة.
ومن لا يعرفْ كيف سقطت الأندلس، سيُصفّقْ للتطبيع.
ومن لا يعرفْ كيف بُنيت الإمبراطوريات الإسلامية، سيظنْ أن الإسلامَ دين تخلُّف وعنف.
ومن لا يعرفْ كيف هُزمت أمريكا في فيتنام والعراق وأفغانستان، سيظنْ أنها قوةٌ لا تُقهر.
التغيير يبدأ من ذاكرة صحيحة:
من هنا، فَــإنَّ إعادةَ قراءة التاريخ، وتنقيته من التشويه، وبنائه في وعي الجيل الجديد، ليست ترفًا أكاديميًّا، بل مسؤوليةٌ وجودية، ومهمة استراتيجية، وضرورة للتحرّر الحقيقي.
وكما قال الشهيد القائد السيد حسين بدر الدين الحوثي:
“من لا يعرف التاريخ، لا يملك وعيًا، ولا يستطيع اتِّخاذ موقف“.
كان الشهيد القائد من أوائل من أعادوا للوعي التاريخي دورَه المركزي في مقاومة الهيمنة.
لقد نبّه بوضوح في محاضراته إلى أن الجهلَ بالتاريخ يخلق شعوبًا هشّة، تُخدَع بسهولة، وتتبنّى مواقفَ العدوّ دون وعي.
وكان يرى أن أولى خطوات التحرّر تبدأ بقراءةِ التاريخ قراءةً قرآنيةً، تُعيدُ للناس بصيرتَهم وتُحرِّرُهم من التزييف.
خاتمة: الذاكرة الحيّة تصنع أُمَّـة لا تُهزم
دعونا نُعِدْ للماضي اعتبارَه، لا بتمجيدٍ أعمى، ولا ببكاءٍ سلبي، بل بقراءةٍ واعية، تزرعُ فينا:
جذورَ العزة ومناعة الوعي ومشعل التغيير وثقافة النصر؛ لأننا نوقنُ أن الأيّامَ دُوَلٌ، وأن الحق لا يموت، مهما صمَتَ الناس، ومهما ارتفعت أصواتُ الباطل.
“وتلك الأيّام نداولها بين الناس” (آل عمران: 140)
فلنستمسكْ بالماضي الذي نريدُه لا الذي فُرِضَ علينا، ولنصنعْ من ذاكرة الأُمَّــة سلاحًا نواجه به الأكاذيب، ونُضيء به دربَ الحرية، ولنُعد تشكيل الوعي الشعبي يكُنْ حصنًا منيعًا ضد الاختراق، ورافعةً للنهضة، وقاعدةً للانتصار القادم، بإذن الله.