أزمة داخلية في كيان العدو الإسرائيلي: “الجيش” يتعنت والسياسيون يصرّون

البيضاء نت |  تقرير يحيى الشامي

 

في ظل استمرار العدوان الوحشي على قطاع غزة الذي دخل عامه الثاني، تشهد “المؤسسة العسكرية” و”السياسية” للكيان الإسرائيلي واحدة من أخطر الأزمات الداخلية التي تهدد بانهيار التماسك الاستراتيجي لهذا الكيان، في وقت تتجلى فيه مؤشرات الانقسام بين القيادة السياسية والعسكرية بشكل غير مسبوق. وتكشف التطورات الأخيرة أن الصراع الداخلي حول مصير العدوان على غزة تحول إلى مواجهة مصيرية، بل ووجودية تعكس عمق الفراغ الاستراتيجي الذي يعيش فيه “العدو الإسرائيلي”، والمقصود بأزمة وجودية أنها تمس أصل فكرة المشروع التوسعي الاستيطاني الذي بُني عليه الكيان منذ نشأته، والذي يعتمد على الهيمنة العسكرية المطلقة، والسيطرة على الأراضي الفلسطينية كركيزة لـ”شرعية” بقائه داخلياً وخارجياً؛ فعندما ينهار التماسك بين القيادة السياسية والعسكرية حول هدف استراتيجي جوهري (مثل إعادة احتلال غزة)، فإن ذلك يُهدد الأساس الذي يقوم عليه المشروع الصهيوني: وحدة القرار العسكري-السياسي في إدارة الصراع مع الفلسطينيين.

جيش العدو يرفض توجيهات المستوى السياسي:

وصلت العلاقة بين “رئيس وزراء” العدو بنيامين نتنياهو (المطلوب للمحكمة الجنائية الدولية بتهم ارتكاب جرائم حرب) وقيادة جيش العدو إلى أسوأ حالاتها، بعد أن كشفت تسريبات عن قرار من طرف نتنياهو باحتلال قطاع غزة بشكل دائم بدعم أمريكي مُعلن، ووفقاً لمصادر في “الكابينت” الإسرائيلي، قدم نتنياهو خطةً تتضمن احتلال مناطق حدودية في غزة تحت ذريعة “تأمين الحدود والبحث عن الأسرى”، وهي الخطة التي ترعاها إدارة ترامب التي سبق أن انتقدت انسحاب العدو من غزة عام 2005.

 

لكن المفاجأة كانت في ردة فعل جيش العدو، الذي أعلن مساء أول أمس إلغاء حالة الطوارئ القتالية المعمول بها منذ 7 أكتوبر 2023، والتي كانت تجبر الجنود النظاميين على البقاء في الخدمة 4 أشهر إضافية بعد انتهاء فترة تجنيدهم، ويعني هذا القرار بدء تسريح آلاف الجنود في منتصف الشهر الجاري، في خطوة تُفسَّر كرفض صريح من القيادة العسكرية لخطة نتنياهو التوسعية، ويرى محللون عسكريون أن هذا التحرك يعكس “إرهاق القيادة العسكرية من التمادي السياسي في عدوان لا هدف استراتيجياً واضحاً له”، خاصة مع تصاعد الخسائر البشرية والمادية، فقد كشفت صحيفة “هآرتس” أن 47 جندياً من جيش العدو قتلوا في غزة منذ مارس الماضي، بينما أصيب ضابط رفيع المستوى بجروح متوسطة جراء انفجار عبوة في جنوب القطاع أمس الثلاثاء، ما يؤكد استمرار المقاومة الفلسطينية في فرض واقع ميداني صعب على العدو.

اليمين يصعِّد و”الجيش” يتعنّت

لم تقتصر محاولات الضغط على جيش العدو على الإطار السياسي الرسمي، بل امتدت إلى التهديدات العلنية من قبل اليمين، فقد دعا المسمى وزير أمن العدو إيتمار بن غفير رئيس أركان جيش العدو إيال زامير إلى “الالتزام بتعليمات القيادة السياسية حتى لو شملت الاحتلال والحسم”، في إشارة إلى ضرورة تنفيذ خطة نتنياهو دون اعتراض. لكن الرد العسكري كان سريعاً عبر إلغاء حالة الطوارئ، ما أثار غضباً غير مسبوق لدى النخبة السياسية المتحالفة في الحكم.

 

وفي تطور استثنائي، هاجم يائير نتنياهو (نجل رئيس وزراء الكيان) رئيسَ الأركان زامير متهماً إياه بـ”الانقلاب العسكري”، واصفاً مواقف “الجيش” بأنها “تشبه انقلابات جمهوريات الموز في السبعينيات”. وجاءت تصريحات يائير رداً على دعوة المحلل العسكري يوسي يهوشواع لنتنياهو بتوضيح تكاليف العملية العسكرية المحتملة، حيث اعتبر نجل رئيس وزراء الكيان أن مثل هذه المطالبات “إجرامية”، وتشكل “تمرداً على الشرعية السياسية”. إلا أن هذه الهجمة تكشف بوضوح محاولة نتنياهو تحويل الصراع الداخلي إلى مسألة ولاء شخصي، بينما تشير التسريبات إلى أن مقربين منه يضغطون على زامير للاستقالة إن لم ينضم إلى خطة احتلال غزة.

خبراء العدو يحذرون من كارثة وجودية

لم تقتصر الانتقادات على المؤسسة العسكرية، بل امتدت إلى أبرز القادة العسكريين السابقين، الذين بدأوا كشف العمق الحقيقي لأزمات الكيان، ففي تصريح لافت، اعترف القائد السابق للقوات البرية في جيش العدو “يفتاح رون تال” بأن الكيان “يقترب من كارثة مع استمرار قواته في غزة”، مُحملاً “الحكومة” مسؤولية الفشل في صياغة استراتيجية واضحة، وشدد رون تال على أن عجز العدو عن إدارة الوضع الميداني في غزة يقوض مكاسبه العسكرية المزعومة، مشيراً إلى أن القوات الاحتياطية منهكة، وأن استنزاف العمليات اليومي بات يهدد بفقدان القدرة القتالية.

 

كما أقر رون تال بفشل الجيش في التعامل مع الأوضاع الإنسانية في غزة، حيث فشل على مدى عام كامل في إنشاء كيان إداري بديل، ما سمح لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالحفاظ على سيطرتها على الجانب المدني، وفق تعبيره. وهذه الاعترافات تُظهر أن العدوان لم يحقق أيًّا من أهدافه المعلنة، بل زاد من تعقيد الموقف، بينما تستمر المآسي الإنسانية في غزة: أكثر من 210 آلاف شهيد وجريح (بينهم عشرات الآلاف من الأطفال والنساء)، و9 آلاف مفقود، ومئات الآلاف يعانون المجاعة تحت أنظار العالم وبدعم غربي لا محدود للكيان، وسط تجاهل تام لأصوات الشعوب الحرة وحتى لأوامر محكمة العدل الدولية بوقف العدوان.

 

ومن جانبه، أعلن ما يُسمى وزير دفاع العدو يسرائيل كاتس أن “هزيمة حماس وإعادة الرهائن هما الهدفان الرئيسيان”، لكنه لم يذكر كيف سيتحقق ذلك في ظل الفراغ الاستراتيجي. وتكشف تصريحاته عن محاولة يائسة لربط استمرار العدوان بمصير الرهائن، بينما تؤكد التقديرات أن 20 من أصل 50 رهينة ما زالوا أحياء، في وقت ترفض فيه المقاومة التفاوض تحت وطأة القصف اليومي.

المشهد داخل الكيان إلى أين؟

تشير جميع المؤشرات إلى أن العدوان على غزة يتجه حالياً نحو مصيرَين محتملَيْن: إما استمرار نتنياهو في فرض خطة الاحتلال الكامل بدعم أمريكي، ما سيُعمق الانقسام الداخلي ويُسرع استنزاف جيش العدو، أو استقالة رئيس الأركان زامير (كما تشير التسريبات)، وبالتالي انهيار القيادة العسكرية، ما سيُفقد العدو أي قدرة على إدارة الميدان. وفي الحالتين، فإن الوضع في غزة سيبقى كارثياً، لكن المقاومة الفلسطينية ستكسب مزيداً من الوقت لتعزيز مكانتها، بينما تزداد العزلة الدولية للعدو.

 

الأهم أن هذه الأزمة الداخلية تُظهر أن العدو الإسرائيلي لم يعد كياناً متماسكاً، بل هو يعاني من صراعات وجودية تهدد بتفككه من الداخل، ومرشحة للمزيد، بينما يزداد الإرهاق الشعبي داخل الكيان من جرّاء الخسائر اليومية، وفي المقابل، تؤكد المقاومة الفلسطينية أن المقاومة خيار لا بديل له، حتى لو استمر العدوان لعشرات السنين.