مسرحية “حَـلّ الدولتين”.. شرعيةٌ مجانية للعدوّ الصهيوني

البيضاء نت | مقالات 

بقلم / فهد شاكر أبوراس

 

الأخطر أنّ هذا “الحلّ” يمنح كيان الاستباحة والإبادة غطاءً لمزيد من التمدد والعدوان حتى يصل إلى (إسرائيل الكبرى). فبعد أن يحظى باعتراف عربي وإسلامي رسمي، سيتحوّل صراعه من صراع وجود مع شعبٍ محتلّ، إلى توغُّل في الأرض من جيرانٍ معترَف بهم.

اليوم، ونحن نشهد انعقاد مؤتمر جديد يتمحور حول فكرة “حلّ الدولتين”، يتوجّب علينا أن ننظر إلى ما وراء الأضواء والخطابات الدبلوماسية الرنّانة، إلى الجوهر الحقيقي لهذه المسرحية التي تكرّس الخيانة العظمى للقضية الفلسطينية، وتهدي العدوّ الصهيوني شرعية مجانية على طبقٍ من ذهب.

هذه ليست خطوة نحو السلام، بل لحظة تاريخية من الاستسلام؛ لحظة تُستبدل فيها الحقوق الثابتة للشعب الفلسطيني بأوهامٍ زائفة، وتُصفّى فيها القضية تحت شعارات برّاقة تخفي وراءها مزيدًا من التطبيع والتطويع للواقع المفروض بالقوة.

إن الاعتراف بهذا “الحلّ” ليس سوى اعتراف بمصادرة الحقوق، لا طريقًا لاستعادتها.

إنّه قبول بالأمر الواقع الذي فرضته آلة الحرب والاستعمار الإسرائيلية على مدى عقود، وبذلك يصبح شهادة وفاة للعدالة، لا وثيقة ميلاد للسلام.

فكرة حَـلّ الدولتين، كما تُطرح اليوم من بعض الأطراف العربية والدولية، لم تَعُد تعني ما كان يُفترض بها تاريخيًا: إقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس على حدود 1967م.

لقد فُرّغت من مضمونها عبر مسار طويل من المماطلات الإسرائيلية، المدعومة بالدعم الأمريكي غير المحدود، فيما كان الاستيطان يلتهم الأرض الفلسطينية لقمةً بعد أُخرى.

لقد تحوّلت الفكرة إلى غطاء لتكريس الاحتلال، إلى أدَاة لإدارة الصراع بدلًا من حله.

والمؤتمر الحالي هو ذروة هذا المسار التآمري، حَيثُ يُطلب من الفلسطينيين والعرب الاعتراف بشرعية كيانٍ استعماري عنصري، في مقابل وعود غامضة ومؤجلة بدولة مشلولة السيادة، ممزقة الأوصال، محرومة من مقومات الحياة الحقيقية، لن تكون في أفضل أحوالها سوى كانتونات معزولة تحيط بها المستوطنات والجدار العازل وقواعد الجيش الإسرائيلي.

أيّ سلام هذا الذي يُبنى على الظلم والقهر؟!

وأيّ دولتين هذه حينما تتحوّل إحداهما إلى سجّانٍ للأُخرى؟!

إنّ الحديث عن أن هذا “الحلّ” سيُعيد الحقوق ليس إلا وهمًا أَو سوء نية.

فالحقوق الفلسطينية ليست مادةً تفاوضية تُجزَّأ أَو تُنتقص.

وحقّ العودة للاجئين، الذي كفله القانون الدولي، يُتخلى عنه فعليًّا في هذه الصفعة الجديدة.

القدس، قلب فلسطين النابض ورمزها الروحي، تُسلّم نهائيًّا كعاصمة أبدية للكيان الصهيوني.

أما الأراضي المحتلّة عام 1967م، التي يُفترض أن تكون أَسَاسًا لدولة فلسطين، فقد استُبيحت بالمستوطنات حتى لم يبقَ منها سوى بقعٍ متناثرة غير متصلة، تجعل أي “دولة” مقبلة مُجَـرّد سجنٍ كبير في الهواء الطلق، تحيط به أسوار السيادة الإسرائيلية التي تتحكم بكل منفذٍ وبكل حركة.

لن تُستعاد الحقوق، بل ستُشرعن سرقتها.

والأخطر أنّ هذا “الحلّ” يمنح الكيان الصهيوني غطاءً لمزيد من التمدد والعدوان.

فبعد أن يحظى باعتراف عربي وإسلامي رسمي، سيتحوّل صراعه من صراع وجود مع شعبٍ محتلّ، إلى “مناوشات أمنية” مع جيرانٍ معترَف بهم، بما يسهّل عليه شنّ حروبه التوسعية تحت ذريعة “الدفاع عن النفس”.

إنه لن يوقف استباحة المنطقة، بل سيمنحه الشرعية لها.

أمّا الدور العربي والإسلامي في هذه المسرحية فجرحه أعمق؛ إذ تحوّل من صوتٍ داعمٍ للشعب الفلسطيني إلى وسيطٍ لتطويعه وإجباره على قبول ما هو أدنى من أدنى الحقوق.

إنّ الاعتراف بحلّ الدولتين في هذا التوقيت وبهذا الشكل ليس سوى عملية تجميلية لواقع التطبيع الخائن، وتحويل الخيانة من سرّية إلى سياسة معلنة.

يُقدَّم للعدوّ اعتراف عربي مجاني، بينما لم ينل الفلسطينيون شيئًا ملموسًا سوى وعودٍ سرعان ما تتبخر كما تبخرت وعود أوسلو.

تلك المظلّة التجميلية تخفي رغبة الأنظمة في طيّ صفحة القضية الفلسطينية والتخلص من عبئها، لتركيز جهودها على صراعاتها الداخلية ومصالحها الضيقة.

إنهم يرون في الكيان الصهيوني شريكًا استراتيجيًّا في مواجهة “أعداء” مفترضين، أَو سدًّا أمام المطالب الشعبيّة بالحرية والعدالة.

وباختصار: يُضحّى بالفلسطينيين على مذبح المصالح الأنانية لحكّامٍ مستبدّين.

لن يعيد هذا المؤتمر، ولن يعيد “حلّ الدولتين” كما يُطرح اليوم، أي حقوق، بل سيكون إعلانا بانتصار الرواية الصهيونية، وإجبار الفلسطينيين على الاعتراف بشرعية محوهم من الخريطة والتاريخ.

إنه ختمٌ على “صفقة القرن” بثوبٍ جديد، قبولٌ نهائي بأن قوة البطش والاحتلال هي التي تصنع الحقوق والوقائع.

إن المقاومة الحقيقية ليست بالسلاح وحده، بل بالرفض الواعي لهذه الصفقات المسمومة، بالتمسك بالهُوية والرواية التاريخية، وبكشف زيف هذه المسرحيات الدبلوماسية، وبمواصلة النضال بكل وسيلة حتى لا تُغيب العدالة.

مستقبل الفلسطينيين لا يمكن أن يُبنى على أَسَاس الاعتراف بمَن سرق أرضهم وشتّتهم، بل على أَسَاس استمرار السعي لتحرير كامل التراب الفلسطيني.

فالفلسطينيون وحدهم أصحاب الحق في تقرير مصيرهم على أرضهم كاملة.

أما الخيانة، فهي ليست في رفض الصفقات الجائرة، بل في القبول بها.