الحشود النبوية تكشفُ سِـرَّ قوة المجتمع اليمني

البيضاء نت | مقالات 

بقلم / شاهر أحمد عمير 

في اليمن، حَيثُ يتجذر الوعي الإيماني في عمق المجتمع، تحولت ذكرى المولد إلى حدث استثنائي، تُطل من خلاله الحشود المليونية لتكتب فصلًا جديدًا من فصول التلاحم والوعي والارتباط بالهُوية

 

تعيش الأُمَّــةُ الإسلامية في كُـلّ عام ذكرى عظيمة تتجدد معها القيم وتتعانق فيها المبادئ مع الواقع، ألا وهي ذكرى المولد النبوي الشريف. وفي اليمن، حَيثُ يتجذّر الوعي الإيماني في عمق المجتمع، تحولت هذه المناسبة إلى حدث استثنائي، تُطل من خلاله الحشود المليونية لتكتب فصلًا جديدًا من فصول التلاحم والوعي والارتباط بالهُوية.

 

إن النظر إلى هذا الحدث من زاوية اجتماعية يكشف عن أبعاد عميقة تتجاوز حدود الفرح الديني، لتؤكّـد أن المجتمع اليمني في لحظاته الجامعة يستحضر أروع معاني التضامن الاجتماعي، ويتجاوز كُـلّ ما يحاول الأعداء زرعه من انقسامات أَو نزعات طائفية ومناطقية. الحشود التي غصّت بها الساحات لم تكن مُجَـرّد أرقام، بل كانت صورة مكثّـفة لمجتمع يرفض التشرذم ويحتضن وحدته رغم الجراح والآلام.

 

المشهد الاجتماعي في يوم المولد حمل في طياته رسالة مفادها أن الشعب قادر على تجاوز الفوارق الطبقية والاجتماعية؛ إذ وقف الفقير بجوار الغني، والمزارع بجوار الموظف، في تلاحم يذيب الحواجز ويرسّخ قيم الأخوة. إنه مشهد يترجم المعنى الحقيقي لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾، حَيثُ تحوّل المولد إلى منصة عملية لترسيخ هذه الأُخوة في واقع الناس.

 

ولعل من أبرز الدلالات الاجتماعية لهذه الحشود أنها أصبحت مدرسةً مفتوحةً للأجيال الناشئة. فالأطفال الذين رافقوا أسرهم، والشباب الذين حضروا بكل حماس، يتشربون معاني الولاء للرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ويكتسبون من أجواء المناسبة قيمًا تربوية تنغرس في وعيهم وسلوكهم. إن هذه العملية التربوية المجتمعية تعكس بجلاء كيف يمكن للمناسبات الدينية أن تتحول إلى رافد لبناء أجيال متمسكة بهويتها، صلبة أمام كُـلّ أشكال الغزو الثقافي والفكري.

 

كما أن الطابع العائلي الذي اتسمت به المشاركة يعكس صورة من صور التكافل الاجتماعي؛ إذ اجتمعت الأسر من مختلف المناطق لتعيش لحظة وجدانية واحدة. هذا الاجتماع يعزز من روابط القربى والجوار، ويجعل من المناسبة مساحة لترميم العلاقات الاجتماعية التي قد تضعف تحت ضغط الظروف الاقتصادية والمعيشية.

 

ومن جانب آخر، فإن الحشود المليونية تعبّر عن قوة المجتمع اليمني في مواجهة محاولات العزلة. فعلى الرغم من الظروف الصعبة والحصار المفروض، إلا أن التواجد الكثيف للناس في الميادين والساحات كان إعلانا صريحًا أن الهُوية الدينية والاجتماعية أقوى من أي حصار. بل إن هذه المشاركة الشعبيّة الضخمة أكّـدت أن المجتمع ليس فقط متماسكًا، بل قادر على تقديم صورة حضارية للأُمَّـة، قائمة على التفاعل الجماعي والتلاحم الإنساني.

 

وفي ظل عالم إسلامي تمزِّقُه الصراعات الداخلية والخارجية، وتمزقه الطوائف المذهبية التي زرعها اليهود والصهاينة والمنافقون لتفريقه وجعله أُمَّـة متشرذمة، غير قادرة على حماية نفسها من عدوها، بل جعلت بعض الدول العربية خدمًا يخدمون الكيان الإسرائيلي، وأمة ضعيفة لا تقدر أن تنصر أطفالها ونساءها في غزة، جاء المولد النبوي الشريف في اليمن ليقدم للعالم درسًا اجتماعيًا بليغًا: أن الأُمَّــة إذَا اجتمعت حول قيمها الجوهرية، وتمسكت بنبيها صلى الله عليه وآله وسلم، فإنها قادرة على أن تكون متماسكة، عصية على الاختراق، ومحصَّنة من التفكك.

 

وهذا هو سر قوة المجتمع اليمني اليوم، وهو ما يجعل من هذه الحشود المليونية حدثًا اجتماعيًّا استثنائيًّا يستحقُّ الدراسة والتحليل، بل والتوقُّف طويلًا أمام رسائله العميقة.