الشهداء لا يموتون.. بل يوسّعون حدودَ الحياة

البيضاء نت | مقالات

بقلم / بشير ربيع الصانع

 

الشهادة في سبيل الله هي فعل وجودي أسمى، وتتويج لرحلة الإيمان. إنها قمة العطاء الإيماني، ففي تلك اللحظة الحاسمة، يقرّر الإنسان أن أغلى ما يملك – وهي روحه – لا تساوي شيئًا أمامَ رضوان خالقِه ونصرة الحق.

هذا البذل المطلق يجسّد أعمق درجات الإخلاص لله وحده، كما وصفه سبحانه: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.

لا يمكن أن يقدم إنسان على مثل هذه التضحية إلا وقد صفّى قلبه من كُـلّ هوى دنيوي، جاعلًا وجهته خالصة لوجه الله وفي سبيله.

دم الشهداء هو سائل الحياة المقدّس به تسقى الأرض وبه يروى وجدان الأُمَّــة.

إنها بذور تُزرع بصدق ويقين في أرض الواقع؛ فمن تلك التضحية النادرة، ينمو في قلب الأُمَّــة شعور عميق بالكرامة لا يمكن أن يُقهر.

إنهم الأحياء حقًا، كما بيّن العليم الخبير: {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ}.

هذه الآية تزرع في النفوس يقينًا بأن دماءهم أثمرت خلودًا لهم، ويُزهِر هذا الدم ليُنبت عزّة وكرامة، ويزهر وعي لا يذبل، يذكر الأُمَّــة بحقها في العيش بكرامة، مُبشّرين بنتيجة عطائهم: {فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ}.

حين يشتد الظلام ويخيم اليأس وتتراكم الغيوم السوداء، يصبح صوت الشهداء هو الهتاف الخالد الذي يشق السكون.

هم صُنّاع الفجر الحقيقيون.

تضحياتهم تُضيء درب الأُمَّــة كمشاعل نورانية، تُزيل الخوف من القلوب، مؤكّـدةً أن طريق الحق واضح، وأن الإيمان أقوى من كُـلّ قوة، مصداقًا لقوله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.

ثقافة الشهادة هي وعيٌ راقٍ يرفض الذلّ والخضوع، ويقدّم التضحية كخيار واعٍ لحماية الأغلى.

إنها تدعو إلى صناعة حياة كريمة لا يُداس فيها على الحقوق، وفقًا للمنهج القرآني الذي يوازن بين الأخذ بالأسباب والثبات: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ}.

هذه الثقافة تبني الإنسان على معاني العزة والمسؤولية، وتجعل المجتمع متماسكًا حول قِيَم الفداء والبذل والعطاء.

تضحيات الشهداء هي “توقيع الشرف” بمداد الدم على صفحات التاريخ.

إن هذه الدماء تحوّل سير الشهداء إلى ذاكرة خالدة للأجيال، تُروى قصصها، فهم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا}.

الشهيد في سبيل الله، في مفهومه العميق، يمنح أمته “حياة حقيقية” لا تُقاس بالسنوات، بل بالكيف والعمق، فهو يوسّع حدود حياة الأُمَّــة، محوّلًا الوجود الذليل إلى وجود مُفعم بالعزة والكرامة.

ويا لها من حياة سعيدة تلك التي يتمناها من عاين الحقيقة: {قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ}.

هذه الأمنية هي لسان حال كُـلّ شهيد، يريد أن ينتقل هذا اليقين إلى الأحياء.

الخضوع والانهزام هما نتاج لثقافة الخوف.

وهنا يأتي دور الشهادة كنقطة تحوّل، فهي تُحوّل الأُمَّــة من حالة الخضوع المُذل إلى حالة العزة والاستقلال بفضل ثقافة البذل التي يرسّخها الشهداء.

هذا التحول هو جوهر الإيمان الذي يدفع المؤمن للاستعلاء على خوف البشر، مؤمنًا بأن النصر لا يأتي بالكثرة والعدة، بل بالصبر والثبات: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.

إن عهد الوفاء للشهداء هو مسؤولية عملية ضخمة تقع على عاتق الأُمَّــة.

الوفاء يعني الحفاظ على الخط، وعدم الانحراف عن الأهداف السامية التي استُشهدوا لأجلها، وإدراك أن الطريق يحتاج إلى مثابرة وعمل دائم، وعدم وهن أَو حزن بعد أن قدموا التضحية الكبرى: {وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ}.

الوفاء الحقيقي هو أن نُثبت أن دمهم لم يذهب هباءً، بل هو جسرٌ عبرت عليه الأُمَّــة إلى فجرها الموعود.