تصعيد يمني في البحر الأحمر: معادلات جديدة في الردع وواقع جيوسياسي متحوِّل

البيضاء نت | تقارير 

 

في ظل استمرار المجازر التي يتعرض لها الفلسطينيون في قطاع غزة، والتي تتسم بطابع إبادة جماعية وسط صمت عربي ودولي مخزٍ، أعلنت القوات المسلحة اليمنية بدء المرحلة الرابعة من عملياتها البحرية ضد الكيان الإسرائيلي. وتشمل هذه المرحلة استهداف جميع السفن التابعة أو المتعاملة مع موانئ العدو، بغض النظر عن جنسيتها وموقعها الجغرافي.

ويأتي القرار كخطوة تصعيدية في إطار ما وصفته صنعاء بـ”المسؤولية الدينية والأخلاقية” تجاه الشعب الفلسطيني، لتتحول المعركة من مجرد إسناد رمزي إلى حصار بحري استراتيجي يشمل البحر الأحمر والمحيط الهندي وصولًا إلى البحر الأبيض المتوسط.

تحدي علني للولايات المتحدة ودول التطبيع

إعلان القوات المسلحة اليمنية شمل صراحة السفن الأمريكية، ما يمثل تحديًا مباشراً لواشنطن، لا سيما أن الاستهداف لن يقتصر على البحر الأحمر، بل سيتوسع إلى ممرات دولية عدة. وبالفعل، كشفت اعترافات طاقم السفينة “ETERNITY C”، التي تم استهدافها مؤخراً، أن وجهتها كانت ميناء أم الرشراش (إيلات) رغم محاولات التمويه عبر التوقف في ميناء جدة.

كما نشرت صنعاء وثائق تربط بين شركات تشغيل السفن المستهدفة وعدد من دول التطبيع مثل تركيا ومصر، ما يُعد بمثابة إعلان غير مباشر بأن السفن المرتبطة بتلك الدول لم تعد خارج دائرة الخطر.

استراتيجية يمنية: أسلحة رخيصة وفعالية ميدانية

في تحوّل نوعي، وظفت القوات اليمنية طائرات مسيّرة وصواريخ باليستية ومجنحة في المعركة البحرية، بأسلحة منخفضة الكلفة قادرة على استنزاف الدفاعات الأمريكية التي تعتمد على صواريخ اعتراضية تتراوح كلفتها بين 4 إلى 30 مليون دولار للصاروخ الواحد. هذا التفوق النوعي أجبر الأسطول الأمريكي الخامس على تغيير استراتيجياته بعد خسائر مادية وبشرية، منها فقدان طائرتين من نوع F-18 وتعرض حاملة طائرات أمريكية لتهديد مباشر.

أبعاد استراتيجية وتداعيات دولية

يمضي التصعيد اليمني نحو إعادة تشكيل المشهد الجيوسياسي في البحر الأحمر، خاصة بعد فشل “تحالف الازدهار” الذي أنشأته واشنطن للتصدي للتهديدات اليمنية. ووفق تقارير أمريكية، فإن القدرات اليمنية المنخفضة التكاليف نجحت في إنهاك الترسانة الغربية، وتحديدًا الأمريكية، في ساحة اشتباك بحرية مفتوحة ومعقّدة.

هذا التطور يضع العالم أمام تحديات جديدة، أبرزها ارتفاع تكاليف التأمين البحري، اضطراب سلاسل الإمداد، وتصاعد أسعار الطاقة والغذاء، الأمر الذي قد يؤدي إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية العالمية، خاصة في الدول المرتبطة تجاريًا مع الكيان الصهيوني.

نهاية الهيمنة البحرية؟

تغيّر المعادلات في البحر الأحمر لم يعد مجرد عنوان مرحلي، بل حقيقة عسكرية تؤكد أن معادلات الردع الأميركية القائمة على الانتشار البحري لم تعد فعّالة كما كانت. وفي ظل التهديد اليمني المعلن باستمرار استهداف السفن، فإن المشهد مرشح لمزيد من التصعيد ما لم يتوقف العدوان على غزة، وفقاً لصنعاء.

اعتماد اليمن على ما يسمِّيه الأمريكيون بـ”تكتيك الإغراق في الجحيم” أَو “الإشباع النيراني”، وذلك عبر إطلاق دفعات متزامنة من المسيرات والصواريخ على القطع البحرية؛ مِمَّا يجعل أنظمة الدفاع عاجزة عن صد جميع الأهداف في آنٍ واحد. هذا التكتيك -حسب توصيف أحد المحللين الأمريكيين- حوّل بعضَ حاملات الطائرات إلى “بَطٍّ في الماء”، أي مُجَـرّد هدف عاجز في عرض البحر.
هذه النجاحات التكتيكية “فتحت نقاشات عميقة داخل دوائر القرار الأمريكي حول جدوى حاملات الطائرات وغواصات الردع، ودفعت إلى إعادة توجيه التمويل العسكري نحو تطوير تقنيات الحرب الحديثة، كالزوارق والطائرات والغواصات المسيرة، بدلًا عن الاستثمار في الأسلحة التقليدية باهظة التكلفة”.

الأدميرال “كودل” أكّـد في جلسة الاستماع أن الأزمة ليست في “النية” أَو “العزيمة”، بل في “القدرة” على مواكبة وتيرة التحديات الجديدة. وهذا الاعتراف، يكشف عن أزمة في البنية الصناعية العسكرية الأمريكية، التي لم تعد قادرة على تلبية متطلبات ساحة المعركة الحديثة، في وقت تستثمر فيه دول أُخرى -مثل الصين وروسيا- في مجالات تسليحية جديدة قائمة على المرونة والكفاءة الاقتصادية.

أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي تساءل صراحةً: “هل سينتظرنا الآخرون عقدًا كاملًا حتى نستعيدَ تفوقنا؟”، في إشارة إلى مخاوفَ أمريكية من التسارع النوعي الذي يحرزه خصومها.

وعن نهاية زمن الهيمنة البحرية المطلقة، فإن معركة البحر الأحمر فرضت واقعًا استراتيجيًّا جديدًا، فالبحر الأحمر -بصفته شريانًا حيويًّا للتجارة العالمية ومنطقة حساسة جيوسياسيًّا- كان طوال العقود الماضية منطقة نفوذ أمريكية بامتيَاز، مع تواجد مُستمرّ للأسطول الخامس والقواعد العسكرية على السواحل المشاطئة.

إلا أن الانسحاب الأمريكي التدريجي من هذه المنطقة -تحت وقع الاستنزاف اليمني- لم يكن مُجَـرّد “إعادة انتشار”، بل انكفاءً بفعل الضغط العسكري والخطر المتزايد.

تصريحات نائب وزير الحرب الأمريكي، التي قال فيها: إن “زمن الهيمنة البحرية المطلقة قد ولّى”، تعكس اعترافًا ضمنيًّا بتراجع النفوذ العسكري الأمريكي في البحر الأحمر ومناطق أُخرى من العالم.