‏سرقة الأعضاء واحتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين: جريمة حرب إسرائيلية وانتهاك للكرامة الإنسانية

“إسرائيل” تتعمد سياسة ممنهجة تقوم على احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين وسرقة أعضائهم وتشويههم، وهو ما يحمل بُعداً استعمارياً للهيمنة على الجسد الفلسطيني حياً وميتاً.

البيضاء نت | تقرير 

 

‏منذ عقود طويلة، يعيش الشعب الفلسطيني تحت منظومة استعمارية قائمة على الاحتلال العسكري والهيمنة على الجسد والأرض والذاكرة. وإذا كانت آلة القتل الإسرائيلية قد سلبت الفلسطينيين حقهم في الحياة، فإنها لم تكتفِ بذلك إذ امتدت يدها لتنهب كرامتهم بعد الموت، من خلال احتجاز جثامين الشهداء وتشويهها، وحرمان ذويهم من وداعهم، بل وفي كثير من الحالات سرقة أعضائهم الحيوية لأغراض طبية أو تجارية أو بحثية.

‏تلك الجريمة التي تجمع بين الموت والنهب والتنكيل، هي سياسة ممنهجة يمارسها الاحتلال الإسرائيلي منذ بداية احتلاله لفلسطين، وتكشف عن عمق العنصرية التي تحكم علاقتها بالشعب الفلسطيني حيث يتحول الجسد الفلسطيني إلى موضوع للسيطرة والإخضاع حتى بعد مفارقته الحياة.

‏أولًا: خلفية تاريخية – من الاحتلال إلى تشريح الجسد الفلسطيني

‏منذ عام 1967، بدأت “إسرائيل” في احتجاز جثامين الفلسطينيين الذين “يُقتلون” على أيدي “جيشها” أو شرطتها أو مستوطنيها. هذه السياسة شكلت أداة للانتقام والابتزاز السياسي.

‏في سبعينيات القرن الماضي، ظهرت أولى مقابر الأرقام، وهي مقابر سرية تُدفن فيها جثامين الفلسطينيين دون أسماء، يُكتفى بوضع رقم معدني فوق القبر. بعض هذه المقابر مثل مقبرة جسر بنات يعقوب وريف طبريا وشمال الأغوار، ما زالت مغلقة حتى اليوم، وتضم مئات الجثث في قبور متهالكة دون هوية.

‏وفي عام 2000، اعترف مدير معهد الطب الشرعي الإسرائيلي السابق يهودا هيس علناً، بأن المعهد كان يستخرج قرنيات وعظاماً وصمامات قلب من جثامين الفلسطينيين دون إذن ذويهم.

‏تزامن ذلك مع تقارير إسرائيلية وسويدية ودولية، أبرزها تحقيق الصحفي السويدي دونالد بوستروم عام 2009 بعنوان ” أبناؤنا نُهبوا من أجل أعضائهم” التي أثارت ضجة عالمية حول سرقة الأعضاء من الشهداء الفلسطينيين، وهي اتهامات لم تنفها الحكومة الإسرائيلية بشكل قاطع حتى اليوم.

‏ثانياً: المشهد الراهن – غزة نموذجاً

‏خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة (منذ أكتوبر 2023 وحتى أكتوبر 2025)، تصاعدت جرائم الحرب إلى مستويات غير مسبوقة.

‏ففي الأسبوع الممتد بين 13 و16 أكتوبر 2025، سلمت سلطات الاحتلال عبر اللجنة الدولية للصليب الأحمر 120 جثماناً لشهداء فلسطينيين، مقابل 4 جثث إسرائيلية ضمن صفقة تبادل.

‏لكن عملية التسليم كشفت عن كارثة إنسانية وأدلة دامغة على التعذيب وسرقة الأعضاء. ‏وفقاً لبيان المكتب الإعلامي الحكومي في غزة (16 أكتوبر 2025)، أظهرت الفحوص الطبية: ‏آثار شنق وحبال حول الأعناق،  ‏إطلاق نار من مسافة صفرية، ‏أيدٍ وأقدام موثوقة بمرابط بلاستيكية، ‏وجثامين سُحقت تحت جنازير الدبابات.

وأكد مدير عام المستشفيات في غزة، د. منير البرش، أن العديد من الجثامين تم تفريغها من الأعضاء الحيوية (القلب، الكبد، الكليتان، القرنية)، وحُشيت بالقطن الأبيض لإخفاء آثار الانتزاع، ما يعزز الشكوك حول سرقة الأعضاء البشرية على نطاق واسع.

‏هذه الوقائع ليست فقط انتهاكاً للقانون الدولي الإنساني، بل جريمة أخلاقية ضد الإنسانية، تمسّ أقدس ما في الإنسان: كرامته بعد الموت.

‏ثالثاً : الضفة الغربية – مقابر الأرقام واحتجاز الكرامة

‏تواصل سلطات الاحتلال الإسرائيلي احتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين في الضفة الغربية في سياسة ممنهجة تُستخدم كوسيلة للردع والعقاب الجماعي.

‏ووفقاً للحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء والكشف عن مصير المفقودين، يحتجز الاحتلال الإسرائيلي حالياً 735 جثماناً فلسطينياً، بينهم 67 طفلاً و10 نساء.

‏من بين هذه الجثامين، هناك 256 جثماناً مدفوناً في مقابر الأرقام ، وهي مقابر عسكرية سرية تُدفن فيها الجثامين دون أسماء، وتُوضع لوحات معدنية مرقّمة بدلاً من الشواهد.

‏كما وثقت الحملة منذ مطلع عام 2025 احتجاز 479 جثماناً إضافياً، بينهم 86 معتقلاً و67 طفلاً، ما يعكس تصعيداً واضحاً في هذه السياسة خلال العام الجاري.

‏تُعتبر هذه الممارسات انتهاكاً صارخاً للمادة (17) من اتفاقية جنيف الرابعة، التي تنص على وجوب احترام جثامين الموتى ودفنهم بطريقة لائقة، كما تُعد شكلاً من التعذيب النفسي الجماعي بحق عائلات الشهداء، التي تُحرم من حقها في الوداع والدفن.

‏رابعاً: الهيمنة على الجسد الفلسطيني – البعد الرمزي والإنساني

‏يرى باحثون مثل لاليه خليلي (في كتابها Time in the Shadows, 2013) ومؤسسة الحق (تقرير The Politics of the Dead, 2019)، أن سياسة احتجاز الجثامين وسرقة الأعضاء تعبر عن جوهر المشروع الاستعماري الإسرائيلي القائم على السيطرة الشاملة على الجسد الفلسطيني حياً وميتاً.

‏الفلسطيني يُحاصر في الحياة بالأسلاك والجدران والاعتقال، ويُحتجز بعد موته في الثلاجات أو المقابر المرقمة، ويُسلب من جسده ذاته.

‏هذه الممارسات ليست فقط انتهاكاً قانونياً، إنما تشكل تجسيد رمزي للهيمنة الاستعمارية التي تنكر للفلسطيني إنسانيته حتى بعد موته. إنها محاولة لإفراغ الموت الفلسطيني من معناه الوطني والروحي، وتحويل الجسد إلى غنيمة في مختبر الاحتلال.

‏خامساً: قراءة قانونية – الجريمة بموجب القانون الدولي

‏ما تقوم به “إسرائيل” يشكل انتهاكاً صارخاً لـ:

– ‏المادة (130) من اتفاقية جنيف الرابعة (1949): القتل العمد والمعاملة اللاإنسانية.

– ‏المادة (17) من الاتفاقية نفسها: واجب احترام الجثامين ودفنها بكرامة.

– ‏المادة (34) من البروتوكول الإضافي الأول (1977): احترام رفات الموتى.

– ‏القاعدة 113 من القانون الدولي العرفي (اللجنة الدولية للصليب الأحمر).

– ‏المادة 8 (2-ب-21) من نظام روما الأساسي (1998): تشويه الجثامين والمعاملة المهينة كجريمة حرب.

‏وبالتالي، فإن الأفعال الموثقة من سرقة الأعضاء إلى احتجاز الجثامين وتشويهها تُعد جريمة حرب وجريمة ضد الإنسانية تستوجب الملاحقة أمام المحكمة الجنائية الدولية.

‏سادساً: البعد الإنساني – الجرح المفتوح في الوعي الفلسطيني

‏الاحتلال الإسرائيلي لا يكتفي بقتل الفلسطيني بل يسعى إلى حرمانه من رمزية الموت الشريف.

‏ففي الثقافة الفلسطينية الدفن ليس مجرد طقس ديني بل فعل من أفعال المقاومة والكرامة. وعندما تُحتجز الجثامين أو تُسرق أعضاؤها، يُحرم المجتمع الفلسطيني من طقس الوداع، وتُفتح جراح لا تندمل في ذاكرة الأمهات والأسر.

‏كل جثمان محتجز هو صرخة معلقة وقبر مفتوح، وكل رقم في مقبرة الأرقام هو اسم محذوف ينتظر استعادته. هذه المأساة لا تخص الفلسطينيين وحدهم؛ إنها تمس الضمير الإنساني العالمي الذي يجب أن يرفض أن تُعامل أجساد البشر كأدوات أو مواد بحثية.

‏ماذا يتوجب على المجتمع الدولي أمام هذه الجرائم ؟ 

تكشف الشهادات الميدانية والتقارير الحقوقية والمصادر التاريخية أن الاحتلال الاسرائيلي يمارس سياسة منهجية في سرقة الأعضاء واحتجاز جثامين الشهداء الفلسطينيين، في خرق صارخ لكل الأعراف الإنسانية والدولية. إنها ليست مجرد جريمة حرب، بل تجسيد لاحتلال يسعى إلى السيطرة على الحياة والموت معاً.

إن المجتمع الدولي، إن كان ما يزال يؤمن بقيم العدالة والكرامة الإنسانية، ملزم أخلاقياً وقانونياً بالتحرك العاجل لتشكيل لجنة تحقيق دولية مستقلة، ومساءلة القادة الإسرائيليين أمام المحكمة الجنائية الدولية، ووقف سياسة احتجاز الجثامين فوراً. فاحترام الجسد الإنساني حتى بعد الموت ليس مسألة فلسطينية فحسب إنما هو امتحان حقيقي لإنسانيتنا جميعاً.

المصدر: الميادين